البرزخ
الأصل في هذه المادّة «البرزخ» و هو الحاجز بين الشّيئين، كالحاجز بين الظّلّ و الشّمس، و الحاجز بين البحر العذب و الملح. و قد أطلق على القبر برزخا مجازا، لأنّه بين الدّنيا و الآخرة، ثمّ أطلق على المدّة بينهما توسّعا، يقال للرّجل إذا مات: فلان في البرزخ، أي بين الدّنيا و الآخرة.
و قال الرّاغب: «قيل: أصله: برزه، فعرّب»، و لم يفصح عن أيّ لغة نقل إلى العربيّة، و عن معناه في تلك اللّغة. و لا شكّ أنّ هذا اللّفظ يشعر من له حسّ مرهف في اللّغة بأنّه لفظ خارج عن طور العربيّة، إمّا بإضافة حرف إليه- و هو الخاء- للدّلالة على معنى زائد فيه، كالمبالغة- كما قيل- فيكون على غرار ألفاظ ندّت عن موادّها. و إمّا أعجميّ مجهول المنشأ؛ إذ ما ورد في أصله لا يفي بإقناع الحاذق من اللّغويّين.
جاء هذا اللّفظ في ثلاث آيات: «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ »[1] ، «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ»[2] ، «وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً»[3] .
يبدو من سياق الآيات الثّلاث أنّ البرزخ حائل لا يمكن اجتيازه، و هو يحول بين بيئتين متباينتين تباينا فاحشا، و هما الدّنيا و الآخرة، و البحر العذب و الملح.
فالبرزخ بين البحرين هو الماء المختلط منهما، يمنع اختلاطهما لجريانه بشدّة بينهما. و هذا ما نشاهده في الأنهار الكبار الّتي تصبّ في البحار؛ حيث تحتفظ بعذوبتها خلال مسافة طويلة لشدّة جريانها، ثمّ يختلط ماؤها بماء البحر المالح تدريجيّا حتّى يذوب فيه او هو الأرض الحاجزة بين بحر عذب و بحر أجاج، و لها نظائر في أرجاء المعمورة.
و قالوا في البرزخ بعد الموت: إنّه حاجز للأموات يمنعهم من الرّجوع إلى الدّنيا كما سبق، و هذا يناسب سياق الآيات «حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ» فإنّهم تمنّوا الرّجوع إلى الدّنيا، فردّ اللّه عليهم أنّ ذلك غير ميسور، فإنّ البرزخ الّذي يدوم إلى يوم البعث حاجز بينهم بين الرّجوع إلى الدّنيا.
و قد صرّح مجاهد بذلك؛ حيث قال: «حجاب بين الميّت و الرّجوع إلى الدّنيا». و قال الطّبريّ: «و من أمامهم حاجز يحجز بينهم و بين الرّجوع». و قال الزّمخشريّ: «أي أمامهم حائل بينهم و بين الرّجعة». و هناك رأي في معنى الآية، و هو أنّ «البرزخ» هو الحاجز بين الدّنيا و الآخرة، و بين الموت و البعث، و اختاره العلّامة الطّباطبائيّ، و فنّد الوجه الأوّل، احتجاجا بأنّ التّقيّد ب إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ على هذا الوجه يكون لغوا، لدلالته على طريق المفهوم على رجوعهم إلى الدّنيا بعد البعث.[4]
قال الطباطبائی: و المراد بهذا البرزخ عالم القبر، و هو عالم المثال الّذي يعيش فيه الإنسان بعد موته إلى قيام السّاعة، على ما يعطيه السّياق و تدلّ عليه آيات أخر، و تكاثرت فيه الرّوايات من طرق الشّيعة، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أئمّة أهل البيت عليهم السّلام، و كذا من طرق أهل السّنّة.[5] و الآية ظاهرة الدلالة على أن هناك حياة متوسطة بين حياتهم الدنيوية و حياتهم بعد البعث، و الآيات في ذلك كثيرة.[6]
المنابع:
المیزان فی تفسیر القرآن، ج 15، 68
المعجم فى فقه لغه القرآن و سر بلاغته، ج 5، ص 306
[1]المؤمنون: 99
[2]الرّحمن: 19، 20
[3]الفرقان: 53
[4]المعجم فى فقه لغه القرآن و سر بلاغته، ج 5، ص 306
[5]المیزان فی تفسیر القرآن، ج 15، 68
[6]الميزان في تفسير القرآن، ج 1، ص 348