ليلة القدر
ليلة القدر ليلة نزول القرآن؛
بسم الله الرحمن الرحيم إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) و ما أدراك ما ليلة القدر (2) ليلة القدر خير من ألف شهر (3) تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (5)
في سبب تسمية هذه الليلة بليلة القدر قيل الكثير من ذلك:
1- لأنّها الليلة التي تعيّن فيها مقدرات العباد لسنة كاملة، يشهد على ذلك قوله تعالى: «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ، فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ » (الدخان:3 و 4) هذه الآية الكريمة تنسجم مع ما جاء من الرّوايات تقول: في هذه الليلة تعيّن مقدرات النّاس لسنة كاملة، و هكذا أرزاقهم، و نهاية أعمارهم، و أمور أخرى تفرق و تبيّن في تلك الليلة المباركة. هذه المسألة طبعا لا تتنافى مع حرية إرادة الإنسان و مسألة الإختيار، لأنّ التقدير الإلهي عن طريق الملائكة إنّما يتمّ حسب لياقة الأفراد و ميزان إيمانهم و تقواهم و طهر نيّتهم و أعمالهم. أي يقدر كلّ فرد ما يليق له؛ و بعبارة اخرى، أرضية التقدير يوفرها الإنسان نفسه، و هذا لا يتنافى مع الإختيار بل يؤكّده.
2- و قال بعض إنّها سمّيت بالقدر لما لها من قدر عظيم و شرف كبير في القرآن جاء قوله سبحانه: «ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ » (الحج:74).
3- و قيل لأنّ القرآن بكل قدره و منزلته نزل على رسول الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بواسطة الملك العظيم في هذه الليلة.
4- إنّها الليلة التي قدّر فيها نزول القرآن.
5- إنّها الليلة التي من أحياها نال قدرا و منزلة.
6- و قيل أيضا لأنّها الليلة التي تنزل فيها الملائكة حتى تضيق بهم الأرض لكثرتهم. لأنّ القدر جاء بمعنى الضيق أيضا كقوله تعالى: «وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ » (الطلاق:7)
كل هذه التفاسير يستوعبها المفهوم الواسع لليلة القدر مع أنّ التّفسير الأوّل أنسب و أشهر.
(أية ليلة هي ليلة القدر؟):
قيل في ذلك كثير، و ذكرت تفاسير عديدة من ذلك: أنّها أوّل ليلة من شهر رمضان المبارك، الليلة السابعة عشرة، الليلة التاسعة عشرة، الليلة الحادية و العشرون، الليلة الثّالثة و العشرون، الليلة السابعة و العشرون، و الليلة التاسعة و العشرون.
و المشهور في الرّوايات أنّها في العشر الأخيرة من شهر رمضان، و في الليلتين الحادية و العشرين أو الثّالثة و العشرين. لذلك ورد في الرّوايات أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحيي كل الليالي العشر الأخيرة من الشهر المبارك بالعبادة.
و روي عن الإمام الصادق عليه السّلام أنّها الليلة الحادية و العشرون أو الثّالثة و العشرون. و عند ما أصر عليه أحدهم في تعيين واحدة بين الليلتين لم يزد الإمام على أن يقول: «ما أيسر ليلتين فيما تطلب!!».
ثمّة روايات متعددة عن أهل البيت عليهم السّلام تركز على الليلة الثّالثة و العشرين. بينما روايات أهل السنة تركز على الليلة السابعة و العشرين.
و روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال: «التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، و الإبرام في ليلة إحدى و عشرين، و الإمضاء في ليلة ثلاث و عشرين».
ليلة القدر إذن محاطة بهالة من الإبهام سنذكر سببه فيما يلي.
(لماذا خفيت ليلة القدر؟):
الإعتقاد السائد أنّ اختفاء ليلة القدر بين ليالي السنة، أو بين ليالي شهر رمضان المبارك يعود إلى توجيه النّاس إلى الاهتمام بجميع هذه الليالي؛ مثلما أخفى رضاه بين أنواع الطاعات كي يتجه النّاس إلى جميع الطاعات، و أخفى غضبه بين المعاصي، كي يتجنب العباد جميعها، و أخفى أحباءه بين النّاس كي يحترم كلّ النّاس، و أخفى الإجابة بين الأدعية لتقرأ كل الأدعية، و أخفى الاسم الأعظم بين أسمائه كي تعظم كل أسمائه، و أخفى وقت الموت كي يكون النّاس دائما على استعداد. و يبدو أن هذا دليل مقبول.
(هل كانت ليلة القدر معروفة بين الأمم السابقة؟):
من ظاهر آيات هذه السّورة نفهم أنّ ليلة القدر ليست خاصّة بزمان نزول القرآن و عصر الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل تتكرر كلّ سنة حين يرث اللّه الأرض و من عليها.
التعبير بالفعل المضارع «تنزل» الدال على الاستمرار، و هكذا التعبير بالجملة الاسمية «سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» (القدر:5) الدالة أيضا على الدوام يؤيد ذلك. مضافا إلى ذلك الرّوايات التي ربّما بلغت حدّ التواتر في تأييد هذه المسألة.
و لكن هل كانت هذه الليلة في الأمم السابقة؟ روايات متعددة تصرّح أنّ هذه الليلة من المواهب الإلهية على هذه الامّة، و عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه وهب لامّتي ليلة القدر لم يعطها من كان قبلهم».
(ليلة القدر خير من ألف شهر):
لماذا كانت خيرا من ألف شهر ... الظاهر لأهمية العبادة و الإحياء فيها. و ما جاء من روايات بشأن فضيلة ليلة القدر و فضيلة العبادة فيها في كتب الشيعة و أهل السنة كثير، و يؤيد هذا المعنى.
أضف إلى ذلك، فإنّ نزول القرآن في هذه الليلة، و نزول البركات و الرحمة الإلهية فيها يجعلها خيرا من ألف شهر.
و عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام قال: لعلي بن أبي حمزة الثمالي: «فاطلبها (أي ليلة القدر) في ليلة إحدى و عشرين و ثلاث و عشرين و صل في كل واحدة منهما مائة ركعة و أحيهما إن استطعت إلى النور، و اغتسل فيهما» قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك و أنا قائم؟ قال: فصلّ و أنت جالس. قال: قلت: فإن لم أستطع؟ قال: فعلى فراشك، لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشي ء من النوم إنّ أبواب السماء تفتح في رمضان و تصفد (تقيّد) الشياطين، و تقبل أعمال المؤمنين .. نعم الشهر رمضان!».
(لما ذا انزل القرآن في ليلة القدر؟):
ليلة القدر- كما علمنا- ليلة تقدير مصائر البشر لسنة كاملة حسب ما يليق بكلّ فرد. فينبغي أن يكون الإنسان فيها مستيقظا و في حالة تقرب إلى اللّه و تكامل على طريق بناء الشخصية الإسلامية ليرفع من مستوى لياقته لمزيد من رحمة اللّه. نعم، في اللحظات التي يتقرر فيها مصيرنا ينبغي أن لا نكون غافلين، و إلّا فسيواجهنا المصير المؤلم.
و القرآن ... باعتباره الكتاب القادر على أن يرسم للبشرية مستقبلها و مصيرها و يهديها إلى طريق سعادتها و هدايتها، يجب أن ينزل في ليلة القدر ... ليلة تعيين المصير ... و ما أجمل هذه العلاقة بين «القرآن» و «ليلة القدر»، و ما أعمق معنى الارتباط بين الإثنين!!
(هل ليلة القدر واحدة في المعمورة؟)
نعم أن بدء الشهر القمري ليس واحدا في جميع البلدان. و قد يكون يومنا هذا أوّل الشهر في بلد و يكون الثّاني في بلد آخر. من هنا لا يمكن أن تكون ليلة القدر ليلة معينة في السنة. على سبيل المثال قد تكون ليلة الثّالث و العشرين في الحجاز هي ليلة الثّاني و العشرين في ايران و العراق. و بهذا يكون لكل بلد ليلة قدر! و هل هذا ينسجم مع ما جاء في الرّوايات المؤكّدة على أنّ ليلة القدر ليلة معينة؟
الجواب يتّضح بالالتفات إلى ما يلي: الليل هو ظل نصف الكرة الأرضية على النصف الآخر من هذه الكرة، و نعلم أن هذا الظل يتحرك بتحرك الكرة الأرضية، و يدور دورة كاملة في أربع و عشرين ساعة من هنا يمكن أن تكون ليلة القدر دورة كاملة لليل حول الأرض، أي تكون هذه الليلة مدّة أربع و عشرين ساعة من دوران الظلام حول الكرة الأرضية بأجمعها، تبدأ من نقطة و تنتهي عند نقطة اخرى. (تأمل بدقّة).[1]
المنبع:
الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج 20، ص 346 إلی ص 351
[1]الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج 20، ص 346 إلی ص 351