غزوة تبوك
غزوة تبوك هي الغزوة التي خرج النبي صلی الله علیه و آله لها في رجب من العام التاسع بعد العودة من حصار الطائف بنحو ستة أشهر.
و كان سبب هذه الغزاة أنّ هرقل أظهر قصد رسول الله صلى الله عليه و سلم بنفسه فقال النبيّ تهيّئوا لغزاة الروم و ذلك في شدّة الحرّ و جدب البلاد و قد طابت الظلال و أينعت الثمار و بين تبوك و المدينة تسعون فرسخا و ما خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في سفر إلّا يورّى بعيره إلّا تبوك فإنّه أفصح بها و بينها للناس لبعد الشقّة و شدة الزمان و كثرة العدد و أمر الناس بالنفقة و الحملان في سبيل الله و هذه القصّة مذكورة في كتاب الله في سورة براءة و خرج رسول الله في ثلاثين ألفا منهم عشرة آلاف فارس و اثنا عشر ألف راكب و ثمانية آلاف راجل و خلّف عليّا في أهله فقال رجل ما خلّفه إلّا استثقالا له فلما سمع عليّ أخذ سلاحه و مضى حتّى أدركه فذكر له قول الناس فقال أما ترضى يا بالحسن أن تكون منّى بمنزلة هارون من موسى إلّا انه لا نبي بعدي فرضى عليّ و رجع و سار النبيّ حتّى أتى تبوك و قد تفرّقت جموع هرقل فلم يلق كيدا»[1]
قال ابن هشام: .. عن محمد بن إسحاق المطلبي، قال: ثمّ أقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بالمدينة ما بين ذي الحجّة إلى رجب، ثم أمر الناس بالتّهيّؤ لغزو الروم. و قد ذكر لنا الزهري و يزيد بن رومان و عبد الله بن أبى بكر و عاصم بن عمر بن قتادة، و غيرهم من علمائنا، كلّ حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، و بعض القوم يحدّث ما لا يحدّث بعض: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أمر أصحابه بالتّهيّؤ لغزو الروم، و ذلك في زمان من عسرة الناس، و شدّة من الحرّ، و جدب من البلاد: و حين طابت الثمار، و الناس يحبّون المقام في ثمارهم و ظلالهم، و يكرهون الشّخوص على الحال من الزمان الّذي هم عليه، و كان رسول الله صلى الله عليه و سلم قلّما يخرج في غزوة إلا كنى عنها، و أخبر أنه يريد غير الوجه الّذي يصمد له، إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيّنها للناس، لبعد الشّقّة، و شدة الزمان، و كثرة العدوّ الّذي يصمد له، ليتأهب الناس لذلك أهبته، فأمر الناس بالجهاز، و أخبرهم أنه يريد الروم.
(تخلف الجد و ما نزل فيه):
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و هو في جهازه ذلك للجدّ بن قيس أحد بنى سلمة: يا جدّ، هل لك العام في جلاد بنى الأصفر؟ فقال:
يا رسول الله، أو تأذن لي و لا تفتّنى؟ فو الله لقد عرف قومي أنه ما من رجل بأشدّ عجبا بالنساء منى، و إني أخشى إن رأيت نساء بنى الأصفر أن لا أصبر، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال: قد أذنت لك. ففي الجدّ بن قيس نزلت هذه الآية: «وَ مِنْهُمْ من يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي، أَلا في الْفِتْنَةِ سَقَطُوا، وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ» (التوبة:49) أي إن كان إنما خشي الفتنة من نساء بنى الأصفر، و ليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة أكبر، بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، و الرغبة بنفسه عن نفسه، يقول تعالى: و إن جهنم لمن ورائه.
و قال قوم من المنافقين بعضهم لبعض: لا تنفروا في الحرّ، زهادة في الجهاد، و شكّا في الحقّ، و إرجافا برسول الله صلى الله عليه و سلم، فأنزل الله تبارك و تعالى فيهم: «وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا في الْحَرِّ، قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ، فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً، جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» (التوبة:81 و 82)..
(حث الرسول على النفقة و شأن عثمان في ذلك):
قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم جدّ في سفره، و أمر الناس بالجهاز و الانكماش، و حضّ أهل الغنى على النّفقة و الحملان في سبيل الله، فحمل رجال من أهل الغنى و احتسبوا، و أنفق عثمان بن عفّان في ذلك نفقة عظيمة، لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به: أن عثمان بن عفّان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اللَّهمّ ارض عن عثمان، فانى عنه راض.
(شأن البكاءين):
قال ابن إسحاق: ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم، و هم البكّاءون، و هم سبعة نفر من الأنصار و غيرهم من بنى عمرو بن عوف: سالم ابن عمير، و علبة بن زيد، أخو بنى حارثة، و أبو ليلى عبد الرحمن بن كعب، أخو بنى مازن بن النّجّار، و عمرو بن حمام بن الجموح، أخو بنى سلمة، و عبد الله ابن المغفّل المزنيّ- و بعض الناس يقول: بل هو عبد الله بن عمرو المزني- و هرميّ ابن عبد الله، أخو بنى واقف، و عرباض بن سارية الفزارىّ. فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه و سلم، و كانوا أهل حاجة، فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولّوا و أعينهم تفيض من الدّمع حزنا ألّا يجدوا ما ينفقون. قال ابن إسحاق: فبلغني أنّ ابن يامين بن عمير بن كعب النّضرى لفي أبا ليلى عبد الرحمن بن كعب و عبد الله بن مغفّل و هما يبكيان، فقال: ما يبكيكما؟ قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه و سلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، و ليس عندنا ما نتقوّى به على الخروج معه، فأعطاهما ناضحا له، فارتحلاه، و زوّدهما شيئا من تمر، فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم.
(شأن المعذرين):
قال ابن إسحاق: و جاءه المعذّرون من الأعراب، فاعتذروا إليه، فلم يعذرهم الله تعالى. و قد ذكر لي أنهم نفر من بنى غفار.
(تخلف نفر عن غير شك):
ثم استتبّ برسول الله صلى الله عليه و سلم سفره، و أجمع السير، و قد كان نفر من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه و سلم، حتى تخلفوا عنه، عن غير شكّ و لا ارتياب، منهم: كعب بن مالك بن أبى كعب، أخو بنى سلمة و مرارة بن الربيع، أخو بنى عمرو بن عوف، و هلال بن أميّة، أخو بنى واقف، و أبو خيثمة، أخو بنى سالم بن عوف. و كانوا نفر صدق، لا يتهمون في إسلامهم...
(تخلف المنافقين):
قال ابن إسحاق: و ضرب عبد الله بن أبىّ معه على حدة عسكره أسفل منه، نحو ذباب، و كان فيما يزعمون ليس بأقلّ العسكرين. فلما سار رسول الله صلى الله عليه و سلم تخلّف عنه عبد الله بن أبىّ، فيمن تخلّف من المنافقين و أهل الرّيب.
(شأن على بن أبى طالب):
و خلّف رسول الله صلى الله عليه و سلم عليّ بن أبى طالب، رضوان الله عليه، على أهله، و أمره بالإقامة فيهم، فأرجف به المنافقون، و قالوا: ما خلّفه إلا استثقالا له، و تخفّفا منه. فلما قال ذلك المنافقون، أخذ عليّ بن أبى طالب، رضوان الله عليه سلاحه، ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو نازل بالجرف، فقال: يا نبيّ الله، زعم المنافقون أنّك إنّما خلّفتني أنك استثقلتني و تخفّفت منى، فقال: كذبوا، و لكنني خلّفتك لما تركت ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي و أهلك، أ فلا ترضى يا عليّ أن تكون منى بمنزلة هارون من موسى؟ إلا أنه لا نبيّ بعدي، فرجع عليّ إلى المدينة، و مضى رسول الله صلى الله عليه و سلم على سفره...
(تخذيل المنافقين للمسلمين و ما نزل فيهم):
قال ابن إسحاق: و قد كان رهط من المنافقين، منهم وديعة بن ثابت، أخو بنى عمرو بن عوف، و منهم رجل من أشجع، حليف لبني سلمة، يقال له: مخشّن بن حميّر- قال ابن هشام: و يقال مخشىّ- يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو منطلق إلى تبوك، فقال بعضهم لبعض: أ تحسبون جلاد بنى الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا! و الله لكأنّا بكم غدا مقرّنين في الحبال، إرجافا و ترهيبا للمؤمنين، فقال مخشّن بن حميّر: و الله لوددت أنّى أقاضى على أن يضرب كلّ (رجل) منّا مائة جلدة، و إنّا ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه. و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم- فيما بلغني- لعمّار بن ياسر أدرك القوم، فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فان أنكروا فقل: بلى، قلتم كذا و كذا. فانطلق إليهم عمّار، فقال ذلك لهم: فأتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، و رسول الله صلى الله عليه و سلم واقف على ناقته، فجعل يقول و هو آخذ بحقبها: يا رسول الله، إنما كنّا نخوض و نلعب، فأنزل الله عزّ و جلّ: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ» (التوبة:65)...
(الصلح بين الرسول و يحنة):
و لما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى تبوك، أتاه يحنّة بن رؤبة، صاحب أيلة، فصالح رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أعطاه الجزية، و أتاه أهل جرباء و أذرح، فأعطوه الجزية، فكتب رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم كتابا، فهو عندهم.
(كتاب الرسول ليحنّة):
فكتب ليحنّة بن رؤبة: بسم الله الرحمن الرحيم: هذه أمنة من الله و محمد النبيّ رسول الله ليحنّة ابن رؤبة و أهل أيلة، سفنهم و سيّارتهم في البرّ و البحر: لهم ذمّة الله، و ذمّة محمد النبيّ، و من كان معهم من أهل الشام، و أهل اليمن، و أهل البحر، فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه. و إنه طيّب لمن أخذه من الناس، و إنه لا يحلّ أن يمنعوا ماء يردونه، و لا طريقا يريدونه، من برّ أو بحر.
(حديث أسر أكيدر ثم مصالحته):
ثم إن رسول الله صلى الله عليه و سلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى أكيدر دومة، و هو أكيدر بن عبد الملك، رجل من كندة كان ملكا عليها، و كان نصرانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لخالد: إنك ستجده يصيد البقر. فخرج خالد، حتى إذا كان من حصنة بمنظر العين، و في ليلة مقمرة صائفة، و هو على سطح له، و معه امرأته، فباتت البقر تحكّ بقرونها باب القصر، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قطّ؟ قال: لا و الله! قالت: فمن يترك هذه؟ قال: لا أحد. فنزل فأمر بفرسه، فأسرج له، و ركب معه نفر من أهل بيته، فيهم أخ يقال له حسّان. فركب، و خرجوا معه بمطاردهم. فلما خرجوا تلقتهم خيل رسول الله صلى الله عليه و سلم، فأخذته، و قتلوا أخاه، و قد كان عليه قباء من ديباج مخوّص بالذّهب، فاستلبه خالد، فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل قدومه به عليه....
(الرجوع إلى المدينة):
فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم بتبوك بضع عشرة ليلة، لم يجاوزها، ثم انصرف قافلا إلى المدينة.[2]
المنابع:
البدءوالتاريخ،ج 4،ص239
السيرةالنبوية،ج 2،ص515-526
[1]البدءوالتاريخ،ج 4،ص239
[2]السيرةالنبوية،ج 2،ص515-526