العرش
العَرش في الأصل شي ء مسقّف و جمعه عُروش. قال تعالى: «فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها»[1] . و سمّي مجلس السّلطان عرشاً اعتبارا بعلوّه. قال تعالی: «إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظيمٌ»[2] ، «وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً»[3] . و كنّي به عن العزّ و السّلطان و المملكة کقولهم: فلان ثُلَّ عرشُه. و عرش اللّه ما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلّا بالاسم. و قال قوم: هو الفلك الأعلى و الكرسيّ فلک الكواكب. و قيل: هو إشارة إلى مملكته و سلطانه لا إلى مقرّ له تعالى عن ذلك.[4]
ذکر العرش فی القرآن 29 مرة فی القرآن، ثلاث منها بلفظ العروش، و المراد بها السقف. و بعضها فی عرش بلقیس ملکة سبأ و عرش یوسف علیه السلام و المراد مجلس السلطان علی ما قال الراغب، و اکثر ما استعمل العرش فی عرش الله تعالی کما قال: «فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظيم »[5] .
و للناس في معنى عرش الله تعالی مسالك مختلفة:
فأكثر السلف على أنها و ما يشاكلها من الآيات من المتشابهات التي يجب أن يرجع علمها إلى الله سبحانه، و هؤلاء يرون البحث عن الحقائق الدينية و التطلع إلى ما وراء ظواهر الكتاب و السنة بدعة، و العقل يخطئهم في ذلك و الكتاب و السنة لا يصدقانهم.
و أما طبقات الباحثين فمنهم من حمل الكلمة على ظاهر معناها فالعرش عندهم مخلوق كهيئة السرير له قوائم و هو موضوع على السماء السابعة و الله مستو عليه كاستواء الملوك منا على عروشهم، و أكثر هؤلاء على أن العرش و الكرسي شي ء واحد، و هو الذي وصفناه. و هؤلاء هم المشبهة من المسلمين، و الكتاب و السنة و العقل تخاصمهم في ذلك و تنزه رب العالمين أن يماثل شيئا من خلقه و يشبهه في ذات، أو صفة، أو فعل تعالى و تقدس.
و منهم من قال: أن العرش هو الفلك التاسع المحيط بالعالم الجسماني و المحدد للجهات و الأطلس الخالي من الكواكب، و الراسم بحركته اليومية للزمان، و في جوفه مماسا به الكرسي و هو الفلك الثامن الذي فيه الثوابت، و في جوفه الأفلاك السبعة الكلية التي هي أفلاك السيارات السبع: زحل و المشتري و المريخ و الشمس و الزهرة و عطارد و القمر بالترتيب محيطا بعضها ببعض. و هذه هي التي يفرضها علم الهيئة على مسلك بطليموس و الظواهر من القرآن و الحديث تنافي بظاهره ما افترضه علماء الهيئة و الطبيعيات سابقا. و أوضحت الأبحاث الأخيرة العميقة في الهيئة و الطبيعيات المؤيدة بالحس و التجربة بطلان الفرضيات السابقة من أصلها.
و منهم من قال: انه لا مصداق للعرش خارجا و إنما قوله تعالى: «الرحمن على العرش استوى » كناية عن استيلائه تعالى على عالم الخلق، أو أن الاستواء على العرش معناه الشروع في تدبير الأمور لكن شأنه تعالى يسمى شروعا و أخذا بالنظر إلى حدوث الأشياء بذواتها و أعيانها يومئذ فيسمى شأنه تعالى و هو الشمول بالرحمة إذا تعلق بها شروعا و أخذا بالتدبير نظير سائر الأفعال الحادثة المقيدة بالزمان المنسوبة إليه تعالى كقولنا خلق الله فلانا. و فيه: أن كون قوله: «ثم استوى على العرش » جاريا مجرى الكناية بحسب اللفظ و إن كان حقا لكنه لا ينافي أن يكون هناك حقيقة موجودة تعتمد عليها هذه العناية اللفظية.
و السلطة و الاستيلاء و ما يجري هذا المجرى فينا أمور وضعية اعتبارية ليس في الخارج منها إلا آثارها و الظواهر الدينية تشابه من حيث البيان ما عندنا من بيانات أمورنا و شئوننا الاعتبارية لكن الله سبحانه يبين لنا أن هذه البيانات وراءها حقائق واقعية، و جهات خارجية ليست بوهمية اعتبارية. فمعنى الملك و السلطنة فيه سبحانه هو المعنى الذي نفهمه منها عندنا لكن المصاديق غير المصاديق فلها هناك مصاديق حقيقية خارجية على ما يليق بساحة قدسه تعالى و أما ما عندنا من مصاديق هذه المفاهيم فهي أوصاف ذهنية ادعائية و جهات وضعية اعتبارية لا تتعدى الوهم، و إنما وضعناها و أخذنا بها للحصول على آثار حقيقية هي آثارها بحسب الدعوى فلا يسمى الرئيس رئيسا إلا لأن يتبع الذين نسميهم مرءوسين إراداته و عزائمه لا لأن الجماعة بدون حقيقة و هو رأسهم حقيقة.
و بالجملة قوله تعالى: «ثم استوى على العرش » في عين أنه تمثيل يبين به أن له إحاطة تدبيرية لملكه يدل على أن هناك مرحلة حقيقية هي المقام الذي يجتمع فيه جميع أزمة الأمور على كثرتها و اختلافها، و يدل عليه آيات أخر تذكر العرش وحده و ينسبه إليه تعالى . و هی تدل بظاهرها على أن العرش حقيقة من الحقائق العينية و أمر من الأمور الخارجية، و لذلك نقول: إن للعرش مصداقا خارجيا، و لم يوضع في الكلام لمجرد تتميم المثل كما نقوله في أمثال كثيرة مضروبة في القرآن.
فالعرش مقام في الوجود يجتمع فيه أزمة الحوادث و الأمور كما يجتمع أزمة المملكة في عرش الملك. و كان فيه صور جميع الوقائع بنحو الإجمال حاضرة عند الله معلومة له.
و الحاصل ان العرش مقام العلم كما أنه مقام التدبير العام الذي يسع كل شي ء، و كل شي ء في جوفه. و لذلك هو محفوظ بعد رجوع الخلق إليه تعالى لفصل القضاء و موجود مع هذا العالم المشهود و موجود قبل هذه الخلقة.[6]
المنابع:
مفردات ألفاظ القرآن، ص 558
الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 154
[1]الحج: 45
[2]النمل: 23
[3]یوسف: 100
[4]مفردات ألفاظ القرآن، ص 558
[5]التوبة: 129
[6]الميزان في تفسير القرآن، ج 8، ص 154 بتلخیص