فتح مكة

فتح مکة

فتح مكّة فتح صفحة جديدة في تاريخ الإسلام، و دحر الأعداء بعد عشرين عاما من المقاومة. و تطهرت أرض الجزيرة العربية من الشرك و الأوثان، و الإسلام تأهب لدعوة بقية أصقاع العالم.

ملخص الواقعة على النحو التالي:

بعد صلح الحديبية، عمد المشركون إلى نقض العهد، و إلى خرق بنود وثيقة الصلح، و اعتدوا على المتحالفين مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فشكى المتحالفون ذلك إلى الرسول، فقرر النّبي أن يهب لحمايتهم. من جهة أخرى، الظروف في مكّة- حيث مركز الوثنية و الأصنام و الشرك و النفاق- توفرت لتطهيرها. و هذه مهمّة كان لا بدّ من أدائها في وقت من الأوقات. لذلك استعد النّبي للحركة بأمر اللّه سبحانه صوب مكّة.

فتح مكّة تمّ في ثلاث مراحل. المرحلة التمهيدية و فيها تمّ تعبئة القوى اللازمة و اختيار الظروف الزمانية المساعدة، و جمع المعلومات الكافية عن العدوّ، و المرحلة الثّانية كانت فتح مكّة بأسلوب ماهر خال من التلفات. و المرحلة الأخيرة هي مرحلة عطاء الفتح و آثاره.

1- هذه المرحلة اتصف بالدقّة المتناهية. و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سيطر على الطريق بين مكّة و المدينة سيطرة تامّة حتى لا يسرب خبر هذا الاستعداد الإسلامي إلى مكّة، و لكي يتمّ الفتح بشكل مباغت. و هذا أدى إلى فتح مكّة دون إراقة دماء تقريبا.

انقطاع اخبار المدينة عن مكّة كان متقنا، حتى أن نفرا من ضعاف الإيمان اسمه «حاطب بن أبي بلتعة» كتب رسالة إلى قريش يخبرهم بأمر المسلمين في المدينة، و بعثها بيد امرأة من قبيلة «مزينة» اسمها «كفود»، أو «سارة». فعلم بها النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطريق إعجازي، و بعث عليّا عليه السّلام إلى المرأة، فوجدها في منزل بين مكّة و المدينة. أخذ منها الرسالة و أعادها إلى المدينة.

النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استخلف أحد المسلمين على المدينة، و توجه في العاشر من رمضان سنة ثمان للهجرة إلى مكّة، و وصلها بعد عشرة أيّام. في الطريق التقى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعمّه العباس و هو يهاجر من مكّة إلى المدينة. فطلب منه النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يرسل متاعه إلى المدينة و يلتحق بالمسلمين، و أخبره بأنّه آخر مهاجر.

2- وصل المسلمون إلى مشارف مكّة و عسكروا عند «مرّ الظهران» على بعد عدّة كيلومترات من مكّة. و في الليل أشعلوا نيران كثيرة لإعداد الطعام (و لعلهم فعلوا ذلك لإثبات تواجدهم الواسع). رأى جمع من أهل مكّة هذا المنظر فتحيروا.

أخبار الزحف الإسلامي كانت لا تزال خافية على قريش في تلك الليلة خرج «أبو سفيان» و معه عدد من سراة قريش للاستطلاع خارج مكّة. و في نفس الليلة قال العباس عم النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا سوء صباح قريش. و اللّه لئن باغتها رسول اللّه في ديارها فدخل مكّة عنوة إنّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. فاستأذن رسول اللّه و خرج على بغلته لعله يرى أحدا متجها إلى مكّة فيخبرهم بمكان رسول اللّه فيأتونه فيستأمنونه.

و بينما العباس يطوف بأطراف مكّة إذ سمع صوت أبي سفيان و معه القرشيون الذين خرجوا يتجسّسون. فقال: أبو سفيان: ما رأيت نيرانا أكثر من هذه! فقال له أحد مرافقيه: هذه نيران خزاعة. فقال أبو سفيان: خزاعة أذلّ من ذلك. نادى العباس أبا سفيان، فسأله أبو سفيان على الفور: ما وراءك؟ قال العباس: هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المسلمين أتاكم في عشرة آلاف. قال أبو سفيان: ما تأمرني؟ أجابه العباس: تركب معي فأستأمن لك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فو اللّه لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك. فخرجا يركضان نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكلما مرّا بنار من نيران المسلمين يقولون: عم رسول اللّه على بغلة رسول اللّه. (أي إن المارّ ليس بغريب). حتى مرّا بنار عمر بن الخطاب. فما أن أبصر به عمر حتى قال له: أبو سفيان! الحمد للّه الذي أمكن منك بغير عقد و لا عهد! دخل العباس و أبو سفيان على رسول اللّه و تبعهما عمر فدخل أيضا و قال للرسول: يا رسول اللّه هذا أبو سفيان عدوّ اللّه قد أمكن اللّه منه بغير عهد و لا عقد فدعني اضرب عنقه. فقال العباس: يا رسول اللّه إني قد أجرته. و كثر الكلام بين العباس و عمر فقال رسول اللّه للعباس: اذهب فقد أمنّاه حتى تغدو علّي به بالغداة. فلما كان من الغد جاء العباس بأبي سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال: ويحك يا أبا سفيان! «ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا اللّه؟». قال: بلى، بأبي أنت و أمي لو كان مع اللّه غيره لقد أغنى عنّي شيئا. فقال النّبي: «ويحك ألم يأن لك أن تعلم أنّي رسول اللّه؟» فقال: بأبي أنت و أمي، أما هذه ففي النفس منها شي ء. فقال: له العباس: ويحك تشهّد شهادة الحق قبل أن تضرب عنقك! فتشهّد. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعباس: «اذهب فاحبس أبا سفيان عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى تمرّ عليه جنود اللّه». قال العباس: يا رسول اللّه إن أبا سفيان يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ... و من دخل المسجد فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن».

خرج العباس و أجلس أبا سفيان عند خطم الجبل فمرّت عليه القبائل، فيقول له العباس: هذه أسلم ... هذه جهينة ... حتى مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كتيبته الخضراء مع المهاجرين و الأنصار متسربلين بالحديد لا يرى منهم إلا حدق عيونهم. فقال: و من هؤلاء؟ قال العباس: هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المهاجرين و الأنصار. فقال أبو سفيان: لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما. قال العباس: ويحك إنّها النبوة. فقال: نعم إذن. ثمّ قال له العباس: الحق بقومك سريعا فحذّرهم. فخرج حتى أتى مكّة فصرخ في المسجد: يا معشر قريش هذا محمّد قد جاءكم بما لا قبل لكم به. ثمّ قال: من دخل داري فهو آمن. و من دخل المسجد فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن ... و قال: يا معشر قريش اسلموا تسلموا. فأقبلت امرأته هند فأخذت بلحيته و قالت: يا آل غالب اقتلوا هذا الشيخ الأحمق. فقال: أرسلي لحيتي و اقسم لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك، ادخلي بيتك! فتركته. ثمّ بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جيش المسلمين منطقة «ذي طوى» و هي مرتفع يشرف على بيوت مكّة. فتذكر الرسول ذلك اليوم الذي خرج فيه مضطرا متخفيا من مكّة. و ها هو يعود إليها منتصرا، فوضع رأسه تواضعا للّه و سجد على رحل ناقته شكرا له سبحانه.

ثمّ ترجّل النّبي الأكرم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في «الحجون» إحدى محلات مكّة، و فيها قبر خديجة عليها السّلام، و اغتسل، ثمّ ركب ثانية بجهاز الحرب و دخل المسجد الحرام و هو يتلو سورة الفتح. ثمّ كبر و كبر جند الإسلام معه، فدوى صوت التكبير في أرجاء مكّة. ثمّ نزل من ناقته، و اقترب من الكعبة، و جعل يسقط الأصنام واحدا بعد الآخر و هو يقول: جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.

و كان عدد من الأصنام قد نصب فوق الكعبة، و لم تصل إليها يد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأمر عليّا أن يصعد على كتفه المباركة و يرمي بالأصنام فامتثل علي أمر الرسول. ثمّ أخذ مفاتيح الكعبة، و فتحها و محا ما كان على جدرانها من صور الأنبياء.

3- بعد الإنتصار الرائع السريع أخذ رسول اللّه حلقة باب الكعبة، و توجّه إلى أهل مكّة و قال لهم: يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم، و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

و أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جيشه أن لا يتعرضوا لأحد، و أن لا يريقوا دم أحد.

و أمر فقط بقتل ستة أفراد- حسب الرّوايات- ممن كانوا خطرين و متوغلين في عدائهم للإسلام. و حين بلغه أن سعد بن عبادة- و هو أحد حملة الوية الجيش الإسلامي- يصيح: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة.

أمر عليّا عليه السّلام أن يأخذ منه الرّاية و يدخل بها مكّة دخولا رقيقا و يقول: اليوم يوم المرحمة!!

و بهذا الشكل فتحت مكّة دون إراقة دماء و كان لعفو الرسول و رحمته الأثر الكبير في القلوب، فدخل النّاس في دين اللّه أفواجا. و دوّى خبر الفتح في أرجاء الجزيرة العربية و ذاع صيت الإسلام، و تعززت مكانة المسلمين .[1]

المنبع:

الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج 20، ص: 523 الی 527

 

[1]الأمثل فى تفسير كتاب الله المنزل، ج 20، ص: 523 الی 527