وقعة الجمل

[وقعة الجمل ]

كانت عائشة بمكة، خرجت قبل أن يقتل عثمان، فلما قضت حجها انصرفت راجعة، فلما صارت في بعض الطريق لقيها ابن أم كلاب، فقالت له: ما فعل عثمان؟ قال: قتل! قالت: بعدا و سحقا! قالت: فمن بايع الناس؟ قال: طلحة. قالت: أيها ذو الإصبع. ثم لقيها آخر، فقالت: ما فعل الناس؟ قال: بايعوا عليا. قالت: و الله ما كنت أبالي أن تقع هذه على هذه. ثم رجعت إلى مكة، و أقام علي أياما، ثم أتاه طلحة و الزبير فقالا: إنا نريد العمرة، فأذن لنا في الخروج. و روى بعضهم أن عليا قال لهما، أو لبعض أصحابه: و الله ما أرادا العمرة، و لكنهما أرادا الغدرة. فلحقا عائشة بمكة فحرضاها على الخروج، فأتت أم سلمة بنت أبي أمية، زوج رسول الله، فقالت: إن ابن عمي و زوج أختي أعلماني أن عثمان قتل مظلوما، و أن أكثر الناس لم يرض ببيعة علي، و أن جماعة ممن بالبصرة قد خالفوا، فلو خرجت بنا لعل الله أن يصلح أمر أمه محمد على أيدينا؟ فقالت لها أم سلمة: إن عماد الدين لا يقام بالنساء، حماديات النساء غض الأبصار، و خفض الأطراف، و جر الذيول. إن الله وضع عني و عنك هذا، ما أنت قائلة لو أن رسول الله عارضك بأطراف الفلوات قد هتكت حجابا قد ضربه عليك؟ فنادى مناديها: إلا إن أم المؤمنين مقيمة، فأقيموا. و أتاها طلحة و الزبير و أزالاها عن رأيها، و حملاها على الخروج، فسارت إلى البصرة مخالفة على علي، و معها طلحة و الزبير في خلق عظيم، و قدم يعلى بن منية بمال من مال اليمن قيل: إن مبلغه أربعمائة ألف دينار، فأخذه منه طلحة و الزبير، فاستعانا به، و سارا نحو البصرة. و مر القوم في الليل بماء يقال له: مر الحوأب، فنبحتهم كلابه، فقالت عائشة: ما هذا الماء؟ قال بعضهم: ماء الحوأب. قالت: إنا لله و إنا إليه راجعون! ردوني ردوني! هذا الماء الذي قال لي رسول الله: لا تكوني التي تنبحك كلاب الحوأب. فأتاها القوم بأربعين رجلا، فأقسموا بالله أنه ليس بماء الحوأب. و قدم القوم البصرة، و عامل علي عثمان بن حنيف، فمنعها و من معها من الدخول، فقالا: لم نأت لحرب، و إنما جئنا لصلح، فكتبوا بينهم و بينه كتابا انهم لا يحدثون حدثا إلى قدوم علي، و أن كل فريق منهم آمن من صاحبه، ثم افترقوا، فوضع عثمان بن حنيف السلاح، فنتفوا لحيته و شاربه و أشفار عينيه و حاجبيه، و انتهبوا بيت المال، و أخذوا ما فيه، فلما حضر وقت الصلاة تنازع طلحة و الزبير، و جذب كل واحد منهما صاحبه، حتى فات وقت الصلاة، و صاح الناس: الصلاة الصلاة يا أصحاب محمد! فقالت عائشة: يصلي محمد بن طلحة يوما و عبد الله بن الزبير يوما، فاصطلحوا على ذلك. فلما أتى عليا الخبر سار إلى البصرة، و استخلف على المدينة أبا حسن بن عبد عمرو، أحد بني النجار، و خرج من المدينة، و معه أربعمائة راكب من أصحاب رسول الله، فلما صاروا إلى أرض أسد و طيّئ تبعه منهم ستمائة، ثم صار إلى ذي قار، و وجه الحسن و عمار بن ياسر، فاستنفر أهل الكوفة، و عامله يومئذ على الكوفة أبو موسى الأشعري، فخذل الناس عنه، فوافاه منهم ستة آلاف رجل، و لقيه عثمان بن حنيف فقال: يا أمير المؤمنين، وجهتني ذا لحية فأتيتك أمرد! و قص عليه القصة. ثم قدم أمير المؤمنين البصرة، و كانت وقعة الجمل بموضع يقال له الخريبة في جمادى الأولى سنة 36. و خرج طلحة و الزبير فيمن معهما، فوقفوا على مصافهم، فأرسل إليهم علي: ما تطلبون و ما تريدون؟ قالوا: نطلب بدم عثمان! قال علي: لعن الله قتلة عثمان! و اصطف أصحاب علي، فقال لهم: لا ترموا بسهم، و لا تطعنوا برمح، و لا تضربوا بسيف ...... أعذروا. فرمى رجل من عسكر القوم بسهم، فقتل رجلا من أصحاب أمير المؤمنين، فأتى به إليه، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى آخر، فقتل رجلا من أصحاب علي، فقال: اللهم اشهد، ثم رمى رجل آخر، فأصاب عبد الله بن بديل ابن ورقاء الخزاعي فقتله، فأتى به أخوه عبد الرحمن يحمله، فقال علي: اللهم اشهد، ثم كانت الحرب، و أطافت بنو ضبة بالجمل، و كانت تحمل الراية، فقتل منهم ألفان، و حفت به الأزد، فقتل منهم ألفان و سبعمائة. و كان لا يأخذ خطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، فقتل طلحة بن عبيد الله في المعركة، رماه مروان بن الحكم بسهم فصرعه، و قال: لا أطلب و الله بعد اليوم بثأر عثمان، و أنا قتلته، فقال طلحة لما سقط: تالله ما رأيت كاليوم، قط، شيخا من قريش أضيع مني! إني و الله ما وقفت موقفا قط إلا عرفت موضع قدمي فيه، إلا هذا الموقف. و قال علي بن أبي طالب للزبير: يا أبا عبد الله، ادن إلي أذكرك كلاما سمعته أنا و أنت من رسول الله! فقال الزبير لعلي: لي الأمان؟ قال علي: عليك الأمان، فبرز إليه فذكره الكلام، فقال: اللهم إني ما ذكرت هذا إلا هذه الساعة، و ثنى عنان فرسه لينصرف، فقال له عبد الله: إلى أين؟ قال: ذكرني علي كلاما قاله رسول الله. قال: كلا، و لكنك رأيت سيوف بني هاشم حدادا تحملها شداد. قال: ويلك! و مثلي يعير بالجبن؟ هلم إلى الرمح. و أخذ الرمح و حمل على أصحاب علي، فقال علي: افرجوا للشيخ، إنه محرج، فشق الميمنة و الميسرة و القلب ثم رجع فقال لابنه: لا أم لك! أ يفعل هذا جبان؟ و انصرف، فاجتاز بالأحنف بن قيس، فقال: ما رأيت مثل هذا، أتى بحرمة رسول الله يسوقها، فهتك عنها حجاب رسول الله، و ستر حرمته في بيته، ثم أسلمها و انصرف. أ لا رجل يأخذ لله منه! فاتبعه عمرو بن جرموز التميمي، فقتله بموضع يقال له وادي السباع، و كانت الحرب أربع ساعات من النهار، فروى بعضهم أنه قتل في ذلك اليوم نيف و ثلاثون ألفا. ثم نادى منادي علي: ألا لا يجهز على جريح، و لا يتبع مول، و لا يطعن في وجه مدبر، و من ألقى السلاح فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن. ثم آمن الأسود و الأحمر، و وجه ابن عباس إلى عائشة يأمرها بالرجوع، فلما دخل عليها ابن عباس قالت: أخطأت السنة يا ابن عباس مرتين، دخلت بيتي بغير أذني، و جلست على متاعي بغير أمري. قال: نحن علمنا إياك السنة، إن هذا ليس ببيتك، بيتك الذي خلفك رسول الله به، و أمرك القرآن أن تقري فيه. و جرى بينهما كلام موضعه في غير هذا من الكتاب. و أتاها علي، و هي في دار عبد الله بن خلف الخزاعي و ابنه المعروف بطلحة الطلحات، فقال: أيها يا حميراء! أ لم تنتهي عن هذا المسير؟ فقالت: يا ابن أبي طالب! قدرت فاسجح! فقال: اخرجي إلى المدينة، و ارجعي إلى بيتك الذي أمرك رسول الله أن تقري فيه. قالت: أفعل. فوجه معها سبعين امرأة من عبد القيس في ثياب الرجال، حتى وافوا بها المدينة، و أعطى الناس بالسوية لم يفضل أحدا على أحد، و أعطى الموالي كما أعطى الضلبية، و قيل له في ذلك، فقال: قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد لولد إسماعيل على ولد إسحاق فضل هذا، و أخذ عودا من الأرض، فوضعه بين إصبعيه. و لما فرغ من حرب أصحاب الجمل، وجه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي إلى خراسان، و قدم عليه ماهويه مرزبان مرو، فكتب له كتابا، و أنفذ له شروطه، و أمره أن يحمل من الخراج ما كان وظفه عليه، فحمل إليه مالا على الوظيفة المتقدمة.[1]

المنبع:

تاريخ اليعقوبى، ج 2، ص180 -184

 

[1]تاريخ اليعقوبى، ج 2، ص180 -184