الجاهلیّة
معنی الجاهلیّة:
الجهل، نقيض العلم، و قد يطلق الجهل و الجهالة على وفق العقل و اتّباع الهوى، و هو الشّائع في القرآن. و الجاهليّة مصدر صناعيّ، وقع في الإسلام للزّمن الّذي كان قبل البعثة على أهل الشّرك، يقال: الجاهليّة الجهلاء. و سمّي ذلك العصر بالجاهليّة، لأنّ أهله قد هجروا الهدى، و اتّبعوا الهوى، و اختاروا العمى، و ليس لقلّة علمهم؛ إذ كانوا يتحلّون بقسط من العلم و الحكمة، كما نرى أثر ذلك في منظومهم و منثورهم. و هذا دأب أهل زماننا، فهم يعلمون و لا يعملون، و يبدعون و لا يحلمون، فما أشبه اللّيلة بالبارحة.[1]
الإسلام اعتبر فترة ما قبله جاهليّة، لغلبة السّفاهة و الجهالة على النّاس، و لا سيّما العرب يوم ذاك، و السّفاهة لا تفارق الجهل غالبا فقد غلب على أهلها السّفاهة و الجهالة معا، و بدأ الإسلام بإيقاظ العقول و نشر العلم بينهم، كما جاء ذكره في الآيات من أوّل سورتي العلق و القلم براعة للاستهلال. فدور الإسلام دور العقل و العلم، و قبله دور السّفاهة و الجهالة.[2]
الجاهلیّة الأولی:
و قد وصفت الجاهليّة بالاولى و اختلفت كلماتهم في معناها، و الأقرب أنّها وصف توضيحيّ لا أنّ هناك جاهليّة أخرى قبلها أو بعدها، و إنّما وصفت بها حرصا على تشخيص قبحها و تجسيم فحشها، و ما جاء في الرّوايات من أنّ هناك جاهليّة أخرى في آخر الزّمان لا يستلزم كونه مفهوما من الآية بل إخبار عن المستقبل السّيّئ للنّاس بمناسبة الآية، و ما أكثر هذه التّنبّآت في آخر الزّمان.[3]
فهو إطلاق قرآني بقصد وصف عدم ارتكاز تقاليد أهل ذلك الزمن على شرع و هدى ربانيين و قد أورد المفسرون في سياق تعبير الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى أقوالا معزوة إلى ابن عباس و غيره مفادها أن دور الجاهلية الذي سبق البعثة دوران الأول هو الذي كان ما بين زمن نوح و إدريس أو قبل عيسى عليهم السلام و الثاني هو ما بين عيسى و محمد عليهما السلام. و يبدو أن هذا التقسيم غير مستقيم مع الواقع. من حيث إن بروز النساء العربيات و إظهار محاسنهن للرجال كان معروفا ممارسا في عصر النبي صلى اللّه عليه و سلم قبل البعثة و قد نهى نساء النبي عن ذلك الذي وصف بتبرّج الجاهلية الأولى. و هو ما لا يدخل في نطاق الدور المسمى في التقسيم بالجاهلية الأولى. و على كل حال فالجملة القرآنية أسلوبية فيما يتبادر هدفت إلى النهي عن التبرّج الذي كان السابقون يعرفونه و يمارسونه قبل البعثة.[4]
بعض ممیّزات الجاهلیّة:
القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، و ليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كل شي ء الباطل و سفه الرأي دون الحق، و كذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم.
كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانية، و في مغربها إمبراطورية الروم و هي نصرانية، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية و النصرانية و المجوسية و هم سكارى جهالتهم.
و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون بالغزوات و شن الغارات و اختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.
أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحمية الجاهلية و الكبر و الغرور و اتباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.
و أما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهن عملا و لا يملكن ميراثا و يتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود و بعض الوثنية و مع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهن و فشا فيهن الزنا و السفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، و من عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.
و أما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفى، و يحرم الصغار ذكورا و إناثا و النساء.
غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتا تزوجوها و أكلوا مالها ثم طلقوها و خلوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.
و كان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق و كانوا يئدون البنات، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثی.
و أما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربما تبدل الوضع بالسلطنة.
فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، و يظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الأمية و فقدان التعليم و التعلم في بلادهم فضلا عن العشائر و القبائل.
و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية و الخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات و البيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام و قوته بالمدينة ثانيا، و في الأوصاف التي تصفهم بها، و الأمور التي تذمها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجهة إليهم في شدتها و ضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك. على أن التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه. و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل. هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.[5]
الجاهلیّة فی آیات القرآن:
و قد أضيفت في الآيات إلى الجاهليّة أربع خصال كأنّها من مميّزاتها: ظنّ الجاهليّة، حكم الجاهليّة، تبرّج الجاهليّة، حميّة الجاهليّة، و إليك التّفصيل:
«ظنّ الجاهليّة»: قال تعالی:«يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ»[6] ؛ جاء فيما خطر بقلوب جماعة من المؤمنين بعد انكسارهم في «غزوة أحد» من الشّكّ في صدق النّبيّ و وعد اللّه، و هذا كان دأب أهل الجاهليّة المشركين، فسياق الآيات قبلها و بعدها هو إدانتهم على ضعف إيمانهم، و تسرّع الرّيب إلى قلوبهم فندّد بهم أوّلا بأنّهم يظنّون باللّه، و هو بنفسه توهّم باطل و سوء ظنّ باللّه، ثمّ أكّده بأنّه ظنّ غير الحقّ، أي ظنّ باطل و كاذب، ثمّ شدّده بأنّه ظنّ الجاهليّة. و ظنّ الجاهليّة مثل «حاتم الجود»، و «رجل صدق» أو أريد: ظنّ أهل الجاهليّة، و المعنى واحد. و هذان الوجهان في الإضافة ساريان في سائر الآيات، فلا نعيدهما فيها.
«حكم الجاهليّة»: قال تعالی:«أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ»[7] ؛ جاءت بشأن اليهود الّذين كانوا يسألون النّبيّ عليه السّلام أن يحكم في الزّنى أو التّفاضل بين القتلى في واقعة بحكم الجاهليّة دون حكم الإسلام أو التّوراة، فندّد بهم تشديدا بالاستفهام الإنكاريّ أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ؟ و قدّم «حكم الجاهلية» على (يبغون) إعلاما بأن ثقل الكلام عليه.
«تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّة»: قال تعالی:«وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى»[8] ؛ جاءت بشأن أزواج النّبيّ عليه السّلام و هي جارية في غيرهنّ من النّساء نهين أن يتبرّجن أي يظهرن زينتهنّ للرّجال، و يخرجن من بيوتهنّ و يمشين على تغنّج و تكسير و نحوها.
«حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّة»: قال تعالی:«إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ»[9] ؛ نزلت بشأن كفّار مكّة في منع النّبيّ و المؤمنين عن دخولها في عمرة الحديبيّة؛ حيث أخذتهم حميّة الجاهليّة، و كانت ثابتة في قلوبهم، و الحميّة: الأنفة الّتي تحمي الإنسان، أي حميت قلوبهم بالغضب حميّة الجاهليّة، و كانت عادة آبائهم أن لا ينقادوا لأحد، و لا سيّما النّبيّ و المؤمنين الّذين قتلوا آباءهم و إخوانهم في غزوة بدر و غيرها، فأنفوا أن يدخل هؤلاء منازلهم و المسجد الحرام فيقضوا مناسكهم و هم ناظرون.[10]
المنابع:
المعجم فى فقه لغه القرآن و سر بلاغته، ج 10، ص 340
التفسير الحديث، ج 7، ص 379
الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 152
[1]المعجم فى فقه لغه القرآن و سر بلاغته، ج 10، ص 340
[2]نفس المصدر
[3]نفس المصدر
[4]التفسير الحديث، ج 7، ص 379
[5]الميزان في تفسير القرآن، ج 4، ص 152
[6]آل عمران: 154
[7]المائدة: 50
[8]الأحزاب: 33
[9]الفتح: 26
[10]المعجم فى فقه لغه القرآن و سر بلاغته، ج 10، ص 340