غزوة الأحزاب(الخندق)
غزوة الأحزاب أو غزوة الخندق؛
أختلف في تأریخها: قیل وقعت في سنة أربع(في شوال من هذه السنة).[1] و قیل - و هو قول الجمهور - إنها وقعت في سنة خمس (في ذي القعدة أو في شوال من هذه السنة)!!!. [2]
[قصة غزوة الأحزاب علی ما جاء في السیرة النبوية لإبن هشام]:
حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام، قال: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمد بن إسحاق المطّلبي، قال: ثم كانت غزوة الخندق في شوّال سنة خمس.
(تحريض اليهود لقريش و ما نزل فيهم):
فحدثني يزيد بن رومان مولى آل الزّبير بن عروة بن الزبير، و من لا أتّهم، عن عبد الله بن كعب بن مالك، و محمد بن كعب القرظيّ، و الزّهرى، و عاصم ابن عمر بن قتادة، و عبد الله بن أبى بكر، و غيرهم من علمائنا، كلهم قد اجتمع حديثه في الحديث عن الخندق، و بعضهم يحدّث ما لا يحدّث به بعض، قالوا: إنه كان من حديث الخندق أن نفرا من اليهود، منهم: سلّام بن أبى الحقيق النّضرى، و حيىّ بن أخطب النّضرى، و كنانة بن أبى الحقيق النّضرى، و هوذة بن قيس الوائلى، و أبو عمّار الوائلى، في نفر من بنى النّضير، و نفر من بنى وائل، و هم الذين حزّبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه و سلم، خرجوا حتى قدموا على قريش مكة، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قالوا: إنا سنكون معكم عليه، حتى نستأصله، فقالت لهم قريش: يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأوّل و العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن و محمد، أ فديننا خير أم دينه؟ قالوا: بل دينكم خير من دينه، و أنتم أولى بالحقّ منه. فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً من الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى من الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا. أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ الله، وَ من يَلْعَنِ الله فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً» (النساء:51 و52)... إلى قوله تعالى: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ الله من فَضْلِهِ»: أي النبوّة، «فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً. فَمِنْهُمْ من آمَنَ به، وَ مِنْهُمْ من صَدَّ عَنْهُ، وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً» (النساء:54 و 55).
(تحريض اليهود لغطفان):
قال: فلما قالوا ذلك لقريش، سرّهم و نشطوا لما دعوهم إليه، من حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فاجتمعوا لذلك و اتّعدوا له. ثم خرج أولئك النّفر من يهود، حتى جاءوا غطفان، من قيس عيلان، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أخبروهم أنهم سيكونون معهم عليه، و أن قريشا قد تابعوهم على ذلك، فاجتمعوا معهم فيه.
(خروج الأحزاب من المشركين):
قال ابن إسحاق: فخرجت قريش، و قائدها أبو سفيان بن حرب، و خرجت غطفان، و قائدها عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، في بنى فزارة، و الحارث ابن عوف بن أبى حارثة المرّي، في بنى مرّة، و مسعر بن رخيلة بن نويرة بن طريف بن سحمة بن عبد الله بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان، فيمن تابعه من قومه من أشجع.
(حفر الخندق و تخاذل المنافقين وجد المؤمنين):
فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه و سلم، و ما أجمعوا له من الأمر، ضرب الخندق على المدينة، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم ترغيبا للمسلمين في الأجر، و عمل معه المسلمون فيه، فدأب فيه و دأبوا. و أبطأ عن رسول الله صلى الله عليه و سلم و عن المسلمين في عملهم ذلك رجال من المنافقين، و جعلوا يورّون بالضّعيف من العمل، و يتسلّلون إلى أهليهم بغير علم من رسول الله صلى الله عليه و سلم، و لا إذن. و جعل الرجل من المسلمين إذا نابته النائبة، من الحاجة التي لا بدّ له منها، يذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه و سلم، و يستأذنه في اللحوق بحاجته، فيأذن له، فإذا قضى حاجته رجع إلى ما كان فيه من عمله، رغبة في الخير، و احتسابا له.
(ما نزل في العاملين في الخندق مؤمنين و منافقين):
فأنزل الله تعالى في أولئك من المؤمنين: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ، وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ، إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ، وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ الله، إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ» (النور:62). فنزلت هذه الآية فيمن كان من المسلمين من أهل الحسبة و الرغبة في الخير، و الطاعة للَّه و لرسوله صلى الله عليه و سلم. ثم قال تعالى، يعنى المنافقين الذين كانوا يتسللون من العمل، و يذهبون بغير إذن من النبيّ صلى الله عليه و سلم: «لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ الله الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ، أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (النور:62)....
(ما ظهر من المعجزات):
قال ابن إسحاق: و كان في حفر الخندق أحاديث بلغتني، فيها من الله تعالى عبرة في تصديق رسول الله صلى الله عليه و سلم، و تحقيق نبوّته، عاين ذلك المسلمون.
(معجزة الكدية):
فكان مما بلغني أن جابر بن عبد الله كان يحدّث: أنه اشتدّت عليهم في بعض الخندق كدية، فشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فدعا بإناء من ماء، فتفل فيه، ثم دعا بما شاء الله أن يدعو به، ثم نضح ذلك الماء على تلك الكدية، فيقول من حضرها: فو الّذي بعثه بالحق نبيّا، لا نهالت حتى عادت كالكثيب، لا تردّ فأسا و لا مسحاة.
(البركة في تمر ابنة بشير):
قال ابن إسحاق: و حدثني سعيد بن مينا أنه حدّث: أن ابنة لبشير بن سعد، أخت النعمان بن بشير، قالت: دعتني أمّى عمرة بنت رواحة، فأعطتنى حفنة من تمر في ثوبي، ثم قالت: أي بنيّة، اذهبي إلى أبيك و خالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتها، فانطلقت بها، فمررت برسول الله صلى الله عليه و سلم و أنا ألتمس أبى و خالي، فقال: تعالى يا بنيّة، ما هذا معك؟ قالت: فقلت: يا رسول الله، هذا تمر، بعثتني به أمى إلى أبى بشير بن سعد، و خالي عبد الله بن رواحة يتغديانه، قال: هاتيه، قالت: فصببته في كفّى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فما ملأتهما، ثم أمر بثوب فبسط له، ثم دحا بالتمر عليه، فتبدّد فوق الثوب، ثم قال لإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق: أن هلمّ إلى الغداء. فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، و جعل يزيد، حتى صدر أهل الخندق عنه، و إنه ليسقط من أطراف الثوب.
(البركة في طعام جابر):
قال ابن إسحاق: و حدثني سعيد بن مينا، عن جابر بن عبد الله، قال: عملنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم في الخندق، فكانت عندي شويهة، غير جدّ سمينة. قال: فقلت: و الله لو صنعناها لرسول الله صلى الله عليه و سلّم، قال: فأمرت امرأتي، فطحنت لنا شيئا من شعير، فصنعت لنا منه خبزا، و ذبحت تلك الشاة، فشويناها لرسول الله صلى الله عليه و سلم. قال: فلما أمسينا و أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم الانصراف عن الخندق- قال: و كنا نعمل فيه نهارنا، فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا- قال: قلت: يا رسول الله، إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا، و صنعنا معها شيئا من خبز هذا الشّعير، فأحبّ أن تنصرف معى إلى منزلي، و إنما أريد أن ينصرف معى رسول الله صلى الله عليه و سلم وحده. قال: فلما أن قلت له ذلك، قال: نعم، ثم أمر صارخا فصرخ: أن انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بيت جابر بن عبد الله، قال: قلت: «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ»! قال: فأقبل رسول الله صلى الله عليه و سلم، و أقبل الناس معه، قال: فجلس و أخرجناها إليه. قال: فبرك و سمّى الله، ثم أكل، و تواردها الناس، كلما فرغ قوم قاموا و جاء ناس، حتى صدر أهل الخندق عنها.
(ما أرى الله رسوله من الفتح):
قال ابن إسحاق: و حدّثت عن سلمان الفارسىّ، أنه قال: ضربت في ناحية من الخندق، فغلظت عليّ صخرة، و رسول الله صلى الله عليه و سلم قريب منى، فلما رآني أضرب و رأى شدّة المكان عليّ، نزل فأخذ المعول من يدي، فضرب به ضربة لمعت تحت المعول برقة، قال: ثم ضرب به ضربة أخرى، فلمعت تحته برقة أخرى، قال: ثم ضرب به الثالثة، فلمعت تحته برقة أخرى. قال: قلت: بأبي أنت و أمى يا رسول الله! ما هذا الّذي رأيت لمع تحت المعول و أنت تضرب؟ قال: أ و قد رأيت ذلك يا سلمان؟ قال: قلت: نعم، قال: أما الأولى فإنّ الله فتح عليّ بها اليمن، و أما الثانية فإنّ الله فتح عليّ بها الشام و المغرب، و أما الثالثة فإن الله فتح عليّ بها المشرق. قال ابن إسحاق: و حدثني من لا أتهم عن أبى هريرة أنه كان يقول، حين فتحت هذه الأمصار في زمان عمر و زمان عثمان و ما بعده: افتتحوا ما بدا لكم، فو الّذي نفس أبى هريرة بيده، ما افتتحتم من مدينة و لا تفتتحونها إلى يوم القيامة إلا و قد أعطى الله سبحانه محمدا صلى الله عليه و سلم مفاتيحها قبل ذلك.
(نزول قريش المدينة):
قال ابن إسحاق: و لمّا فرغ رسول الله صلى الله عليه و سلم من الخندق، أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع الأسيال من رومة، بين الجرف و زغابة في عشرة آلاف من أحابيشهم، و من تبعهم من بنى كنانة و أهل تهامة، و أقبلت غطفان و من تبعهم من أهل نجد، حتى نزلوا بذنب نقمى، إلى جانب أحد. و خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون، حتى جعلوا ظهورهم إلى سلع، في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب لك عسكره، و الخندق بينه و بين القوم.
(استعمال ابن أم مكتوم على المدينة):
قال ابن هشام: و استعمل على المدينة ابن أمّ مكتوم.
قال ابن إسحاق: و أمر بالذّرارى و النساء فجعلوا في الآطام.
(حمل حيي كعبا على نقض عهده للرسول):
قال: و خرج عدوّ الله حيىّ بن أخطب النّضرىّ، حتى أتى كعب ابن أسد القرظي، صاحب عقد بنى قريظة و عهدهم، و كان قد وادع رسول الله صلى الله عليه و سلم على قومه، و عاقده على ذلك و عاهده، فلما سمع كعب بحييّ بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له، فناداه حيىّ: ويحك يا كعب! افتح لي، قال: ويحك يا حيىّ: إنك امرؤ مشئوم، و إني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلا وفاء و صدقا، قال ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: و الله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك منها، فاحفظ الرجل، ففتح له، فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدهر و ببحر طام، جئتك بقريش على قادتها و سادتها، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، و بغطفان على قادتها و سادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد، قد عاهدوني و عاقدونى على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا و من معه. قال: فقال له كعب: جئتني و الله بذلّ الدهر، و بجهام. قد هراق ماءه، فهو يرعد و يبرق، ليس فيه شي ء، ويحك يا حيّى! فدعني و ما أنا عليه، فإنّي لم أر من محمد إلا صدقا و وفاء. فلم يزل حيىّ بكعب يفتله في الذّروة و الغارب، حتى سمح له، على أن أعطاه عهدا من الله و ميثاقا: لئن رجعت قريش و غطفان، و لم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب بن أسد عهده، و برئ مما كان بينه و بين رسول الله صلى الله عليه و سلم.
(تحرى الرسول عن نقض كعب للعهد):
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم الخبر و إلى المسلمين، بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم سعد بن معاذ بن النعمان، و هو يومئذ سيّد الأوس، و سعد ابن عبادة بن دليم، أحد بنى ساعدة بن كعب بن الخزرج و هو يومئذ سيّد الخزرج و معهما عبد الله بن رواحة، أخو بنى الحارث بن الخزرج، و خوّات بن جبير، أخو بنى عمرو بن عوف، فقال: انطلقوا حتى تنظروا، أحقّ ما بلغنا عن هؤلاء القوم أم لا؟ فان كان حقّا فالحنوا لي لحنا أعرفه، و لا تفتّوا في أعضاد الناس و إن كانوا على الوفاء فيما بيننا و بينهم فاجهروا به للناس. قال: فخرجوا حتى أتوهم، فوجدوهم على أخبث ما بلغهم عنهم، فیما نالوا من رسول الله صلى الله عليه و سلم، و قالوا: من رسول الله؟ لا عهد بيننا و بين محمد و لا عقد. فشاتمهم سعد ابن معاذ و شاتموه، و كان رجلا فيه حدّة، فقال له سعد بن عبادة: دع عنك مشاتمتهم، فما بيننا و بينهم أربى من المشاتمة. ثم أقبل سعد و سعد و من معهما، إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم، فسلّموا عليه، ثم قالوا: عضل و القارة، أي كغدر عضل و القارة بأصحاب الرجيع، خبيب و أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: الله أكبر، أبشروا يا معشر المسلمين.
(ما عم المسلمين من الخوف و ظهور نفاق المنافقين):
قال: و عظم عند ذلك البلاء، و اشتدّ الخوف، و أتاهم عدوّهم من فوقهم و من أسفل منهم، حتى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، و نجم النّفاق من بعض المنافقين، حتى قال معتّب بن قشير، أخو بنى عمرو بن عوف: كان محمّد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى و قيصر، و أحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط.
قال ابن هشام: و أخبرنى من أثق به من أهل العلم: أن معتّب بن قشير لم يكن من المنافقين، و احتجّ بأنه كان من أهل بدر.
قال ابن إسحاق: و حتى قال أوس بن قيظىّ، أحد بنى حارثة بن الحارث: يا رسول الله، إن بيوتنا عورة من العدوّ، و ذلك عن ملأ من رجال قومه، فأذن لنا أن نخرج فنرجع إلى دارنا، فإنها خارج من المدينة. فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و أقام عليه المشركون بضعا و عشرين ليلة، قريبا من شهر، لم تكن بينهم حرب إلا الرّمّيا بالنبل و الحصار.
قال ابن هشام: و يقال الرّميا.
(همّ الرسول بعقد الصلح بينه و بين غطفان ثم عدل):
فلما اشتدّ على الناس البلاء، بعث رسول الله صلى الله عليه و سلم، كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة و من لا أتهم، عن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، إلى عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر، و إلى الحارث بن عوف بن أبى حارثة المرّي، و هما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه و عن أصحابه، فجرى بينه و بينهما الصلح، حتى كتبوا الكتاب و لم تقع الشهادة و لا عزيمة الصّلح، إلا المراوضة في ذلك. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يفعل، بعث إلى سعد بن معاذ و سعد بن عبادة، فذكر ذلك لهما، و استشارهما فيه، فقالا له: يا رسول الله، أمرا نحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به، لا بدّ لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: بل شي ء أصنعه لكم، و الله ما أصنع ذلك إلا لأننى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، و كالبوكم من كلّ جانب، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر مّا، فقال له سعد بن معاذ: يا رسول الله، قد كنّا نحن و هؤلاء القوم على الشّرك باللَّه و عبادة الأوثان، لا نعبد الله و لا نعرفه، و هم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعا، أ فحين أكرمنا الله بالإسلام و هدانا له و أعزّنا بك و به، نعطيهم أموالنا! و الله ما لنا بهذا من حاجة، و الله لا نعطيهم إلا السّيف حتى يحكم الله بيننا و بينهم، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: فأنت و ذاك. فتناول سعد بن معاذ الصّحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب، ثم قال: ليجهدوا علينا.
(عبور نفر من المشركين الخندق):
قال ابن إسحاق: فأقام رسول الله صلى الله عليه و سلم و المسلمون، و عدوّهم محاصروهم، و لم يكن بينهم قتال، إلا أن فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبد ودّ بن أبى قيس، أخو بنى عامر بن لؤيّ.
قال ابن هشام: و يقال: عمرو بن عبد بن أبى قيس.
قال ابن إسحاق: و عكرمة بن أبى جهل، و هبيرة بن أبى وهب المخزوميّان، و ضرار بن الخطّاب الشاعر ابن مرداس، أخو بنى محارب بن فهر، تلبّسوا للقتال، ثم خرجوا على خيلهم، حتى مرّوا بمنازل بنى كنانة، فقالوا: تهيّئوا يا بنى كنانة للحرب، فستعلمون من الفرسان اليوم. ثم أقبلوا تعنق بهم خيلهم، حتى وقفوا على الخندق، فلما رأوه قالوا: و الله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها.
(سلمان و إشارته بحفر الخندق):
قال ابن هشام: يقال: إن سلمان الفارسىّ أشار به على رسول الله صلى الله عليه و سلم.
و حدثني بعض أهل العلم: أن المهاجرين يوم الخندق قالوا: سلمان منّا، و قالت الأنصار: سلمان منّا، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: سلمان منا أهل البيت.
(قتل علىّ علیه السلام لعمرو بن عبد ودّ):
قال ابن إسحاق: ثم تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه، فجالت بهم في السّبخة بين الخندق و سلع، و خرج عليّ بن أبى طالب عليه السلام في نفر معه من المسلمين، حتى أخذوا عليهم الثّغرة التي أقحموا منها خيلهم و أقبلت الفرسان تعنق نحوهم، و كان عمرو بن عبد ودّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة، فلم يشهد يوم أحد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه. فلما وقف هو و خيله، قال: من يبارز؟ فبرز له عليّ بن أبى طالب فقال له: يا عمرو، إنك قد كنت عاهدت الله ألا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلّتين إلا أخذتها منه، قال له: أجل، قال له عليّ: فانى أدعوك إلى الله و إلى رسوله، و إلى الإسلام، قال: لا حاجة لي بذلك، قال: فانى أدعوك إلى النّزال، فقال له: لم يا بن أخى؟ فو الله ما أحبّ أن أقتلك، قال له عليّ: لكنى و الله أحبّ أن أقتلك، فحمى عمرو عند ذلك، فاقتحم عن فرسه، فعقره، و ضرب وجهه، ثم أقبل على عليّ، فتنازلا و تجاولا، فقتله عليّ رضى الله عنه...
(شعار المسلمين يوم الخندق):
و كان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يوم الخندق و بنى قريظة: حم، لا ينصرون...
(دبيب الفرقة بين المشركين):
فلما كانت ليلة السّبت من شوّال سنة خمس، و كان من صنع الله لرسوله صلى الله عليه و سلم أن أرسل أبو سفيان بن حرب و رءوس غطفان إلى بنى قريظة عكرمة بن أبى جهل، في نفر من قريش و غطفان، فقالوا لهم: إنا لسنا بدار مقام، قد هلك الخفّ و الحافر، فاغدوا للقتال حتى نناجز محمدا، و نفرغ مما بيننا و بينه، فأرسلوا إليهم: إن اليوم يوم السبت، و هو یوم لا نعمل فيه شيئا، و قد كان أحدث فيه بعضنا حدثا، فأصابه ما لم يخف عليكم، و لسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا من رجالكم، يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نناجز محمدا، فانا نخشى إن ضرّستكم الحرب، و اشتدّ عليكم القتال أن تنشروا إلى بلادكم و تتركونا، و الرجل في بلدنا، و لا طاقة لنا بذلك منه. فلما رجعت إليهم الرسل بما قالت بنو قريظة، قالت قريش و غطفان: و الله إن الّذي حدّثكم نعيم بن مسعود لحقّ، فأرسلوا بنى قريظة: إنا و الله لا ندفع إليكم رجلا واحدا من رجالنا، فان كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة، حين انتهت الرسل إليهم بهذا: إن الّذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحقّ، ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فان رأوا فرصة انتهزوها، و إن كان غير ذلك انشمروا إلى بلادهم. و خلّوا بينكم و بين الرجل في بلدكم، فأرسلوا إلى قريش و غطفان: إنا و الله لا نقاتل معكم محمدا حتى تعطونا رهنا، فأبوا عليهم، و خذّل الله بينهم، و بعث الله عليهم الرّيح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تكفأ قدورهم، و تطرح أبنيتهم.
(أرسل الرسول حذيفة ليتعرف ما حل بالمشركين):
فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما اختلف من أمرهم، و ما فرّق الله من جماعتهم، دعا حذيفة بن اليمان، فبعثه إليهم، لينظر ما فعل القوم ليلا.
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظيّ، قال: قال رجل من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله، أ رأيتم رسول الله صلى الله عليه و سلم و صحبتموه؟ قال: نعم، يا بن أخى، قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: و الله لقد كنا نجهد، قال: فقال: و الله لو أدركناه ما تركناه يمشى على الأرض و لحملناه على أعناقنا. قال: فقال حذيفة: يا بن أخى، و الله لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه و سلم بالخندق، و صلى رسول الله صلى الله عليه و سلم هويّا من اللّيل، ثم التفت إلينا فقال: من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع- يشرط له رسول الله صلى الله عليه و سلم الرّجعة- أسأل الله تعالى أن يكون رفيقي في الجنة؟ فما قام رجل من القوم، من شدّة الخوف، و شدّة الجوع، و شدّة البرد، فلما لم يقم أحد، دعاني رسول الله صلى الله عليه و سلم، فلم يكن لي بدّ من القيام حين دعاني، فقال: يا حذيفة، اذهب فادخل في القوم، فانظر ما ذا يصنعون، و لا تحدثنّ شيئا حتى تأتينا. قال: فذهبت فدخلت في القوم و الرّيح و جنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقرّ لهم قدرا و لا نارا و لا بناء. فقام أبو سفيان، فقال: يا معشر قريش: لينظر امرؤ من جليسه؟ قال حذيفة: فأخذت بيد الرجل الّذي كان إلى جنبي، فقلت: من أنت؟ قال: فلان بن فلان.
(مناداة أبى سفيان فيهم بالرحيل):
ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنكم و الله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع و الخفّ، و أخلفتنا بنو قريظة، و بلغنا عنهم الّذي نكره، و لقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قدر، و لا تقوم لنا نار، و لا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فانى مرتحل، ثم قام إلى جمله و هو معقول، فجلس عليه، ثم ضربه، فوثب به على ثلاث، فو الله ما أطلق عقاله إلا و هو قائم، و لو لا عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم إليّ «أن لا تحدث شيئا حتى تأتينى»، ثم شئت، لقتلته بسهم.
(رجوع حذيفة إلى الرسول بتخاذل المشركين و انصرافهم):
قال حذيفة: فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم و هو قائم يصلى في مرط لبعض نسائه، مراجل.
قال ابن هشام: المراجل: ضرب من وشى اليمن.
فلما رآني أدخلنى إلى رجليه، و طرح عليّ طرف المرط، ثم ركع و سجد، و إني لفيه، فلما سلّم أخبرته الخبر، و سمعت غطفان بما فعلت قريش، فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
(انصراف الرسول عن الخندق):
قال ابن إسحاق: و لما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم انصرف عن الخندق راجعا إلى المدينة و المسلمون، و وضعوا السلاح.[3]
المنابع:
السيرةالنبوية،ج 2،ص214-233
الطبقات الكبرى،ج 2،ص:5
سبل الهدى،ج 4،ص396
البدايةوالنهاية،ج 4،ص93
[1]سبل الهدى،ج 4،ص396، البدايةوالنهاية،ج 4،ص93
[2]السيرةالنبوية،ج 2،ص214، الطبقات الكبرى،ج 2،ص5
[3]السيرةالنبوية،ج 2،ص214-233