مکّة
قال یاقوت الحموي: «مَكّة: بيت الله الحرام، قال بطليموس: طولها من جهة المغرب ثمان و سبعون درجة، و عرضها ثلاث و عشرون درجة، و قيل إحدى و عشرون، تحت نقطة السرطان، طالعها الثريّا، بيت حياتها الثور، و هي في الإقليم الثاني، أما اشتقاقها ففيه أقوال، قال أبو بكر بن الأنباري: سميت مكة لأنها تمكّ الجبّارين أي تذهب نخوتهم، و يقال إنما سميت مكة لازدحام الناس بها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ضرع أمّه إذا مصه مصّا شديدا، و سميت بكة لازدحام الناس بها، قاله أبو عبيدة.. و يقال: مكة اسم المدينة و بكة اسم البيت، و قال آخرون: مكة هي بكة و الميم بدل من الباء كما قالوا: ما هذا بضربة لازب و لازم، و قال أبو القاسم: هذا الذي ذكره أبو بكر في مكة و فيها أقوال أخر نذكرها لك، قال الشرقيّ بن القطاميّ: إنما سميت مكة لأن العرب في الجاهلية كانت تقول لا يتم حجّنا حتى نأتي مكان الكعبة فنمكّ فيه أي نصفر صفير المكّاء حول الكعبة، و كانوا يصفرون و يصفقون بأيديهم إذا طافوا بها ... و قال قوم: سميت مكة لأنها بين جبلين مرتفعين عليها و هي في هبطة بمنزلة المكّوك، و المكوك عربيّ أو معرب قد تكلمت به العرب و جاء في أشعار الفصحاء ... قال و أما قولهم: إنما سميت مكة لازدحام الناس فيها من قولهم: قد امتكّ الفصيل ما في ضرع أمه إذا مصّه مصّا شديدا فغلط في التأويل لا يشبّه مص الفصيل الناقة بازدحام الناس و إنما هما قولان: يقال سميت مكة لازدحام الناس فيها، و يقال أيضا: سميت مكة لأنها عبّدت الناس فيها فيأتونها من جميع الأطراف من قولهم: امتكّ الفصيل أخلاف الناقة إذا جذب جميع ما فيها جذبا شديدا فلم يبق فيها شيئا، و هذا قول أهل اللغة، و قال آخرون: سميت مكة لأنها لا يفجر بها أحد إلا بكّت عنقه فكان يصبح و قد التوت عنقه، و قال الشرقيّ: روي أن بكة اسم القرية و مكة مغزى بذي طوى لا يراه أحد ممن مرّ من أهل الشام و العراق و اليمن و البصرة و إنما هي أبيات في أسفل ثنية ذي طوى، و قال آخرون: بكة موضع البيت و ما حول البيت مكة، قال: و هذه خمسة أقوال في مكة غير ما ذكره ابن الأنباري، و قال عبيد الله الفقير إليه: و وجدت أنا أنها سمّيت مكة من مك الثدي أي مصه لقلة مائها لأنهم كانوا يمتكون الماء أي يستخرجونه، و قيل: إنها تمك الذنوب أي تذهب بها كما يمك الفصيل ضرع أمه فلا يبقي فيه شيئا، و قيل: سميت مكة لأنها تمك من ظلم أي تنقصه ...
و روي عن مغيرة بن إبراهيم قال: بكة موضع البيت و موضع القرية مكة، و قيل: إنما سميت بكة لأن الأقدام تبك بعضها بعضا، و عن يحيى بن أبي أنيسة قال: بكة موضع البيت و مكة هو الحرم كله، و قال زيد بن أسلم: بكة الكعبة و المسجد و مكة ذو طوى و هو بطن الوادي الذي ذكره الله تعالى في سورة الفتح، و لها أسماء غير ذلك، و هي: مكة و بكة و النسّاسة و أم رحم و أم القرى و معاد و الحاطمة لأنها تحطم من استخفّ بها، و سمّي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة، و الرأس لأنها مثل رأس الإنسان، و الحرم و صلاح و البلد الأمين و العرش و القادس لأنها تقدس من الذنوب أي تطهر، و المقدسة و الناسّة و الباسّة، بالباء الموحدة، لأنها تبسّ أي تحطم الملحدين و قيل تخرجهم، و كوثى باسم بقعة كانت منزل بني عبد الدار، و المذهب في قول بشر بن أبي خازم: (و ما ضمّ جياد المصلّى و مذهب ).
و سماها الله تعالى أم القرى فقال: لتنذر أم القرى و من حولها، و سماها الله تعالى البلد الأمين في قوله تعالى: و التين و الزيتون و طور سينين و هذا البلد الأمين، و قال تعالى: لا أقسم بهذا البلد و أنت حلّ بهذا البلد، و قال تعالى: و ليطّوّفوا بالبيت العتيق، و قال تعالى: «جَعَلَ الله الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ» (المائدة:97) و قال تعالى على لسان إبراهيم، عليه السّلام: «رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ» (ابراهیم:35) و قال تعالى أيضا على لسان إبراهيم عليه السلام: «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ من ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ..» الآیة (ابراهیم:35)، و لما خرج رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، من مكة وقف على الحزورة قال: إني لأعلم أنك أحبّ البلاد إليّ و أنك أحب أرض الله إلى الله و لو لا أن المشركين أخرجوني منك ما خرجت، و قالت عائشة: لو لا الهجرة لسكنت مكة فإني لم أر السماء بمكان أقرب إلى الأرض منها بمكة و لم يطمئن قلبي ببلد قط ما اطمأن بمكة و لم أر القمر بمكان أحسن منه بمكة......
قال أهل الإتقان من أهل السير: إن إبراهيم الخليل لما حمل ابنه إسماعيل عليهما السلام، إلى مكة .. جاءت جرهم و قطوراء و هما قبيلتان من اليمن و هما ابنا عمّ و هما جرهم بن عامر بن سبإ بن يقطن بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السّلام، و قطوراء، فرأيا بلدا ذا ماء و شجر فنزلا و نكح إسماعيل في جرهم، فلما توفي ولي البيت بعده نابت بن إسماعيل و هو أكبر ولده ثم ولي بعده مضاض بن عمرو الجرهمي خال ولد إسماعيل ما شاء الله أن يليه ثم تنافست جرهم و قطوراء في الملك و تداعوا للحرب فخرجت جرهم من قعيقعان و هي أعلى مكة و عليهم مضاض ابن عمرو، و خرجت قطوراء من أجياد و هي أسفل مكة و عليهم السّميدع، فالتقوا بفاضح و اقتتلوا قتالا شديدا فقتل السميدع و انهزمت قطوراء فسمي الموضع فاضحا لأن قطوراء افتضحت فيه، و سميت أجياد أجيادا لما كان معهم من جياد الخيل، و سميت فعيقعان لقعقعة السلاح، ثم تداعوا إلى الصلح و اجتمعوا في الشعب و طبخوا القدور فسمي المطابخ، قالوا: و نشر الله ولد إسماعيل فكثروا و ربلوا ثم انتشروا في البلاد لا يناوئون قوما إلا ظهروا عليهم بدينهم، ثم إن جرهما بغوا بمكة فاستحلّوا حراما من الحرمة فظلموا من دخلها و أكلوا مال الكعبة و كانت مكة تسمى النّسّاسة لا تقرّ ظلما و لا بغيا و لا يبغي فيها أحد على أحد إلا أخرجته فكان بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة بن غسان و خزاعة حلولا حول مكة فآذنوهم بالقتال فاقتتلوا ... فغلبتهم خزاعة على مكة و نفتهم عنها ... ثم وليت خزاعة البيت ثلاثمائة سنة يتوارثون ذلك كابرا عن كابر حتى كان آخرهم حليل بن حبشيّة بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة و هو خزاعة بن حارثة بن عمرو مزيقياء الخزاعي و قريش إذ ذاك هم صريح ولد إسماعيل حلول و صرم و بيوتات متفرقة حوالي الحرم إلى أن أدرك قصيّ بن كلاب بن مرّة و تزوّج حبّى بنت حليل بن حبشية و ولدت بنيه الأربعة و كثر ولده و عظم شرفه ثم هلك حليل بن حبشيّة و أوصى إلى ابنه المحترش أن يكون خازنا للبيت و أشرك معه غبشان الملكاني و كان إذا غاب أحجب هذا حتى هلك الملكاني، فيقال إن قصيّا سقى المحترش الخمر و خدعه حتى اشترى البيت منه بدنّ خمر و أشهد عليه و أخرجه من البيت و تملّك حجابته و صار ربّ الحكم فيه، فقصيّ أول من أصاب الملك من قريش بعد ولد إسماعيل و ذلك في أيام المنذر ابن النعمان على الحيرة و الملك لبهرام جور في الفرس، فجعل قصي مكة أرباعا و بنى بها دار النّدوة فلا تزوّج امرأة إلا في دار الندوة و لا يعقد لواء و لا يعذر غلام و لا تدرّع جارية إلا فيها، و سميت الندوة لأنهم كانوا ينتدون فيها للخير و الشر فكانت قريش تؤدّي الرفادة إلى قصي و هو خرج يخرجونه من أموالهم يترافدون فيه فيصنع طعاما و شرابا للحاج أيام الموسم، و كانت قبيلة من جرهم اسمها صوفة بقيت بمكة تلي الإجازة بالناس من عرفة مدة .... ثم أخذتها منهم خزاعة و أجازوا مدة ثم غلبهم عليها بنو عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان و صارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيّارة أحد بني سعد بن وابش ابن زيد بن عدوان ...
و كانت صورة الإجازة أن يتقدمّهم أبو سيّارة على حماره ثم يخطبهم فيقول: اللهمّ أصلح بين نسائنا و عاد بين رعائنا و اجعل المال في سمحائنا، و أوفوا بعهدكم و أكرموا جاركم و اقروا ضيفكم، ثم يقول: أشرق ثبير كيما نغير، ثم ينفذ و يتبعه الناس، فلما قوي أمر قصيّ أتى أبا سيّارة و قومه فمنعه من الإجازة و قاتلهم عليها فهزمهم فصار إلى قصيّ البيت و الرفادة و السقاية و الندوة و اللواء، فلما كبر قصيّ ورقّ عظمه جعل الأمر في ذلك كله إلى ابنه عبد الدار لأنه أكبر ولده و هلك قصيّ و بقيت قريش على ذلك زمانا، ثم إن عبد مناف رأى في نفسه و ولده من النباهة و الفضل ما دلّهم على أنهم أحق من عبد الدار بالأمر، فأجمعوا على أخذ ما بأيديهم و همّوا بالقتال فمشى الأكابر بينهم و تداعوا إلى الصلح على أن يكون لعبد مناف السقاية و الرفادة و أن تكون الحجابة و اللواء و الندوة لبني عبد الدار، و تعاقدوا على ذلك حلفا مؤكّدا لا ينقضونه ما بلّ بحر صوفة، فأخرجت بنو عبد مناف و من تابعهم من قريش و هم بنو الحارث بن فهر و أسد بن عبد العزّى و زهرة بن كلاب و تيم بن مرّة جفنة مملوءة طيبا و غمسوا فيها أيديهم و مسحوا بها الكعبة توكيدا على أنفسهم فسمّوا المطيبين، و أخرجت بنو عبد الدار و من تابعهم و هم مخزوم بن يقظة و جمح و سهم و عدي بن كعب جفنة مملوءة دما و غمسوا فيها أيديهم و مسحوا بها الكعبة فسمّوا الأحلاف و لعقة الدم و لم يل الخلافة منهم غير عمر بن الخطاب و الباقون من المطيّبين فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الإسلام و قريش على ذلك حتى فتح النبي صلّى الله عليه و سلّم، مكة في سنة ثمان للهجرة فأقرّ المفتاح في يد عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد العزى ابن عثمان بن عبد الدار و كان النبي صلّى الله عليه و سلّم، أخذ المفاتيح منه عام الفتح فأنزلت: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها» (النساء:58)، فاستدعاه ورد المفاتيح إليه و أقر السقاية في يد العباس فهي في أيديهم إلى الآن، و هذا هو كاف من هذا البحث، و أما صفتها، يعني مكة، فهي مدينة في واد و الجبال مشرفة عليها من جميع النواحي محيطة حول الكعبة، و بناؤها من حجارة سود و بيض ملس و علوها آجرّ كثيرة الأجنحة من خشب الساج و هي طبقات لطيفة مبيّضة، حارّة في الصيف إلا أن ليلها طيّب و قد رفع الله عن أهلها مؤونة الاستدفاء و أراحهم من كلف الاصطلاء، و كل ما نزل عن المسجد الحرام يسمونه المسفلة و ما ارتفع عنه يسمونه المعلاة، و عرضها سعة الوادي، و المسجد في ثلثي البلد إلى المسفلة و الكعبة في وسط المسجد، و ليس بمكة ماء جار و مياهها من السماء، و ليست لهم آبار يشربون منها و أطيبها بئر زمزم و لا يمكن الإدمان على شربها، و ليس بجميع مكة شجر مثمر إلا شجر البادية فإذا جزت الحرم فهناك عيون و آبار و حوائط كثيرة و أودية ذات خضر و مزارع و نخيل و أما الحرم فليس به شجر مثمر إلا نخيل يسيرة متفرقة، و أما المسافات فمن الكوفة إلى مكة سبع و عشرون مرحلة و كذلك من البصرة إليها و نقصان يومين، و من دمشق إلى مكة شهر، و من عدن إلى مكة شهر، و له طريقان أحدهما على ساحل البحر و هو أبعد و الآخر يأخذ على طريق صنعاء و صعدة و نجران و الطائف حتى ينتهي إلى مكة، و لها طريق آخر على البوادي و تهامة و هو أقرب من الطريقين المذكورين أولا على أنها على أحياء العرب في بواديها و مخالفها لا يسلكها إلا الخواصّ منهم، و أما أهل حضرموت و مهرة فإنهم يقطعون عرض بلادهم حتى يتصلوا بالجادّة التي بين عدن و مكة، و المسافة بينهم إلى الأمصار بهذه الجادة من نحو الشهر إلى الخمسين يوما، و أما طريق عمان إلى مكة فهو مثل طريق دمشق صعب السلوك من البوادي و البراري القفر القليلة السكان و إنما طريقهم في البحر إلى جدّة فإن سلكوا على السواحل من مهرة و حضرموت إلى عدن بعد عليهم و قلّ ما يسلكونه، و كذلك ما بين عمان و البحرين فطريق شاقّ يصعب سلوكه لتمانع العرب فيما بينهم فيه.[1]
المنبع:
معجم البلدان،ج 5،ص181 الی 188
[1]معجم البلدان،ج 5،ص181 الی 188