غزوة ذات السلاسل
المجموعات : الغزوات

غزوة ذات السّلاسل

السلاسل: ماء بأرض جذام، و بذلك سمّيت غزاة ذات السلاسل، و قال ابن إسحاق: اسم الماء سلسل، و به سميت ذات السلاسل. [1]

قال الواقدي: ... قالوا: بلغ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أنّ جمعا من بلىّ و قضاعة قد تجمّعوا يريدون أن يدنوا إلى أطراف رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، فدعا رسول الله صلّى الله عليه و سلّم عمرو بن العاص فعقد له لواء أبيض، و جعل معه راية سوداء، و بعثه فى سراة المهاجرين و الأنصار- فى ثلاثمائة- عامر بن ربيعة، و صهيب بن سنان، و أبو الأعور سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، و سعد بن أبى وقّاص، و من الأنصار: أسيد بن حضير، و عبّاد بن بشر، و سلمة بن سلامة، و سعد بن عبادة. و أمره أن يستعين بمن مرّ به من العرب، و هي بلاد بلىّ و عذرة و بلقين، و ذلك أنّ عمرو بن العاص كان ذا رحم بهم، كانت أمّ العاص بن وائل بلويّة، فأراد رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يتألّفهم بعمرو. فسار، و كان يكمن النهار و يسير الليل، و كانت معه ثلاثون فرسا، فلمّا دنا من القوم بلغه أنّ لهم جمعا كثيرا، فنزل قريبا منهم عشاء و هم شاتون، فجمع أصحابه الحطب يريدون أن يصطلوا- و هي أرض باردة- فمنعهم، فشقّ ذلك عليهم حتى كلّمه فى ذلك بعض المهاجرين فغالظه، فقال عمرو: أمرت أن تسمع لى و تطيع! قال: فافعل! و بعث رافع بن مكيث الجهنىّ إلى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم يخبره أنّ لهم جمعا كثيرا و يستمدّه بالرجال، فبعث أبا عبيدة بن الجرّاح و عقد له لواء، و بعث معه سراة المهاجرين- أبى بكر و عمر- و الأنصار، و أمره رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أن يلحق عمرو بن العاص. فخرج أبو عبيدة فى مائتين، و أمره أن يكونا جميعا و لا يختلفا. فساروا حتى لحقوا بعمرو بن العاص، فأراد أبو عبيدة أن يؤم الناس و يتقدّم عمرا، فقال له عمرو: إنما قدمت علىّ مددا لى، و ليس لك أن تؤمّنى، و أنا الأمير، و إنما أرسلك النبىّ صلّى الله عليه و سلّم إلىّ مددا. فقال المهاجرون: كلّا، بل أنت أمير أصحابك و هو أمير أصحابه! فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا! فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف- و كان حسن الخلق، ليّن الشّيمة- قال: لتطمئنّ يا عمرو، و تعلمنّ أنّ آخر ما عهد إلىّ رسول الله صلّى الله عليه و سلّم أن قال: «إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا و لا تختلفا». و إنك و الله إن عصيتني لأطيعنّك! فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلّى بالناس.

فآب إلى عمرو جمع- فصاروا خمسمائة- فسار الليل و النهار حتى وطئ بلاد بلىّ و دوّخها، و كلّما انتهى إلى موضع بلغه أنه كان بهذا الموضع جمع فلمّا سمعوا به تفرّقوا، حتى انتهى إلى أقصى بلاد بلىّ و عذرة و بلقين، و لقى فى آخر ذلك جمعا ليس بالكثير، فقاتلوا ساعة و تراموا بالنّبل، و رمى يومئذ عامر بن ربيعة بسهم فأصيب ذراعه. و حمل المسلمون عليهم فهربوا، و أعجزوا هربا فى البلاد و تفرّقوا، و دوّخ عمرو ما هناك و أقام أيّاما لا يسمع لهم بجمع و لا بمكان صاروا فيه، و كان يبعث أصحاب الخيل فيأتون بالشاء و النّعم، و كانوا ينحرون و يذبحون، لم يكن فى ذلك أكثر من ذلك، و لم تكن غنائم تقسم إلّا ما ذكر له.

و كان رافع بن أبى رافع الطائىّ يقول: كنت فيمن نفر مع أبى عبيدة ابن الجرّاح، و كنت رجلا أغير فى الجاهلية على أموال الناس، فكنت أجمع الماء فى البيض- بيض النّعام- فأجعله فى أماكن أعرفها، فإذا مررت بها و قد ظمئت استخرجتها فشربت منها. فلما نفرت فى ذلك البعث قلت: و الله لأختارنّ لنفسي صاحبا ينفعني الله به. فاخترت أبا بكر الصّدّيق فصحبته، و كانت له عباءة فدكيّة، فإذا ركب خلّها عليه بخلال، و إذا نزلنا بسطها. فلما قفلنا قلت: يا أبا بكر، رحمك الله! علّمنى شيئا ينفعني الله به. قال: قد كنت فاعلا و لو لم تسألنى، لا تشرك باللّه، و أقم الصلاة، و آت الزكاة، و صم رمضان، و حجّ البيت و اعتمر، و لا تتأمّر على اثنين من المسلمين. قال: قلت: أما ما أمرتنى به من الصلاة و الصوم و الحج فأنا فاعله، و أما الإمارة فإنى رأيت الناس لا يصيبون هذا الشّرف و هذا الغنى و هذه المنزلة عند رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و عند الناس إلّا بها. قال: إنك استنصحتني فجهدت لك نفسي، إنّ الناس دخلوا فى الإسلام طوعا و كرها فأجارهم الله من الظلم، و هم عوّاد الله و جيران الله، و فى أمانته، فمن أخفر فإنما يخفر الله فى جيرانه، و إنّ شاة أحدكم أو بعيره ليذهب فيظلّ ناتئا عضله غضبا لجاره، و الله من وراء جاره. قال: فلما توفّى رسول الله صلّى الله عليه و سلّم و استخلف أبو بكر رضى الله عنه جئته فقلت: يا أبا بكر، ألم تنهني أن أتأمّر على اثنين؟ قال: بلى، و أنا على ذلك! قال: فما لك تأمّرت على أمّة محمّد؟ قال: اختلف الناس و خشيت عليهم الهلاك، و دعوا إلىّ فلم أجد لذلك بدّا.

قال: و كان عوف بن مالك الأشجعىّ رفيقا لأبى بكر و عمر رضى الله عنهما معهما فى رحلهما، فخرج عوف يوما فى العسكر فمرّ بقوم بأيديهم جزور قد عجزوا عن عملها، فكان عوف عالما بالجزر فقال: أ تعطونى عليها و أقسمها بينكم؟ قالوا: نعم نعطيك عشيرا منها. فنحرها ثم جزأها بينهم، و أعطوه منها جزأ فأخذه فأتى به أصحابه، فطبخوه و أكلوا منه.

فلمّا فرغوا قال أبو بكر و عمر رضى الله عنهما: من أين لك هذا اللّحم؟ فأخبرهما فقالا: و الله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا. ثم قاما يتقيّآن، فلما فعل ذلك أبو بكر و عمر فعل ذلك الجيش، و قال أبو بكر و عمر رضى الله عنهما لعوف: تعجّلت أجرك! ثم أتى أبا عبيدة فقال له مثل ذلك.

و كان عمرو بن العاص حين قفلنا احتلم فى ليلة باردة كأشدّ ما يكون من البرد، فقال لأصحابه: ما ترون؟ قد و الله احتلمت، و إن اغتسلت متّ! فدعا بماء فتوضّأ و غسل فرجه و تيمّم، ثم قام فصلّى بهم، فكان أوّل من بعث عوف بن مالك بريدا. قال عوف بن مالك: فقدمت على رسول الله صلّى الله عليه و سلّم فى السّحر و هو يصلّى فى بيته، فسلّمت عليه، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: عوف بن مالك؟ قلت: عوف بن مالك يا رسول الله! قال: صاحب الجزور؟ قلت: نعم. و لم يزد على هذا شيئا، ثم قال: أخبرنى! فأخبرته بما كان فى مسيرنا و ما كان بين أبى عبيدة بن الجرّاح و بين عمرو بن العاص و مطاوعة أبى عبيدة، فقال رسول الله صلّى الله عليه و سلّم: يرحم الله أبا عبيدة بن الجرّاح! ثم أخبرته أنّ عمرا صلّى بنا و هو جنب و معه ماء لم يزد على أن غسل فرجه بماء و تيمّم، فسكت رسول الله صلّى الله عليه و سلّم. فلمّا قدم عمرو على النبىّ صلّى الله عليه و سلّم سأله عن صلاته فأخبره فقال: و الذي بعثك بالحقّ لو اغتسلت لمتّ، لم أجد قطّ بردا مثله، و قد قال الله: «وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كانَ بِكُمْ رَحِيماً» (النساء:29) فضحك رسول الله صلّى الله عليه و سلّم، و لم يبلغنا أنه قال شيئا.[2]

المنابع:

المغازي،ج 2،ص770-771

معجم البلدان،ج 3،ص233

 

[1]معجم البلدان،ج 3،ص233

[2]المغازي،ج 2،ص770-771