معراج النبی صلی الله علیه و آله

معراج النبي الأكرم صلى الله عليه و آله و سلم

إن الوقوف على إسراء النبي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى و عروجه منه إلى سدرة المنتهى من معاجزه و كراماته التي أثبتهما القرآن الكريم في سورتي الإسراء و النجم، و تفصيل ما ظهر له فيهما من الآيات يتوقف على نقل شأنهما في الذكر الحكيم. أما الإسراء فقال فيه: «سبحان الذى أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذى باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير» (الإسراء:1)

1- إبتدأ سبحانه كلامه بالتسبيح و قال: «سبحان» و هي كلمة تنزيه لله عز اسمه عما لايليق به من الصفات، و قد يراد به التعجيب، و لكن الظاهر هو الأول. و لعل الوجه في إبتدائها بالتنزيه هو التصريح بتنزيهه سبحانه عن العجز لماسيذكر بعده من الإسراء بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى في فترة زمنية قصيرة، و يمكن أن يكون الوجه إرادة تنزيهه سبحانه عن التجسيم و الجهة والرؤية وكل ما لا يليق بعز جلاله و صفات كماله، حتى لايتوهم متوهم أن المقصود من المعراج هو رؤية الله تبارك و تعالى في ملكوت عرشه و جبروت سلطانه، و الأول أقرب.

2- الإسراء لغة هو السير في الليل. يقال: سرى بالليل و أسرى بمعنى، و أما الإتيان بلفظة «ليلا» مع الإستغناء عنه فيأتي وجهه.

3- قوله «بعبده» يدل على أن الإسراء كان بمجموع الروح و الجسد يقظة لا مناما و لم يطلق العبد في القرآن إلا على المجموع منهما. قال سبحانه: «الحر بالحر والعبد بالعبد» (البقرة: 178). و قال سبحانه: «و لعبد مؤمن خير من مشرك» (البقرة:221). إلى غير ذلك من الآيات التي ورد فيها لفظ العبد و التي تناهز 28 آية، و يؤيد ذلك أنه سبحانه ابتدأ السورة بالتنزيه فقال: «سبحان الذى أسرى بعبده ...» خصوصا إذا قلنا بأنه للتعجب فإنه يكون في الامور العظام الخارقة للعادة، و لو كان الإسراء بمجرد الروح، مناما لم يكن فيه كبير شأن و لم يكن مستعظما، و ما ورد في المقام من الروايات المنتهية إلى أمثال معاوية ابن أبي سفيان بأنه قال: كان رؤيا من الله صادقة، مرفوض فإن معاوية يومئذ كان من المشركين لايقبل خبره في مثل هذا، ومثله ما روي عن عائشة زوجة النبي بأنه قال: ما فقد جسد رسول الله و لكن اسري بروحه، فإن عائشة يومئذ كانت صغيرة و لم تكن زوجة رسول الله، بل لم تولد بعد على إحتمال، و هناك كلام لأبي جعفر الطبري في تفسيره نقتطف منه ما يلي: «الصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله أسرى بعبده محمد صلى الله عليه و آله و سلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما أخبر الله عباده وك ما تضافرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: إن الله حمله على البراق حتى أتى به فصلى هناك بمن صلى من الأنبياء و الرسل فأراه ما أراه من الآيات، و لامعنى لقول من قال: اسري بروحه دون جسده، لأن هذا الإسراء لايشكل دليلا على نبوته و لاحجة له على رسالته، و لا كان الذين أنكروا حقيقة ذلك من أهل الشرك. إذ لم يكن منكرا عندهم و لا عند أحد من ذوي الفطرة الصحيحة من بني آدم أن يرى الرائي منهم في المنام ما على مسيرة سنة، فكيف ما هو مسيرة شهر أو أقل؟

و بعد، فإن الله إنما أخبر في كتابه أنه أسرى بعبده و لم يخبرنا أنه أسرى بروح عبده، فليس جائزا لأحد أن يتعدى ما قال الله إلى غيره- [مضافا] إلى أن الأدلة الواضحة والأخبار المتداولة عن رسول الله أسري به على دابة يقال لها البراق، فلو كان الإسراء بروحه لم تكن الروح محمولة على البراق، إذ كانت الدواب لاتحمل إلا الأجساد.

4- «ليلا» و هو يدل على أن الإسراء في بعض الليل كما يفيده التنكير فلايستفاد ذلك من لفظ الإسراء، فإنه يدل على صرف كونه في الليل.

قال الزمخشري: إن تنكير «ليلا» للدلالة على أنه اسرى به بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، و ذلك إن التنكير قد دل على معنى البعضية و يشهد لذلك قراءة عبدالله بن حذيفة: «من الليل» أي بعض الليل، كقوله: «و من الليل فتهجد به نافلة لك» (أي من بعضه). ثم إن الحركة بهذه السرعة ممكنة في نفسها، فقد جاء في القرآن أن الرياح كانت تسير بسليمان إلى المواقع البعيدة في الأوقات الزمنية القليلة كما مر.

و حكى سبحانه عن الذي كان عنده علم من الكتاب أنه أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمن إلى أقصى الشام في مقدار لمح البصر، حيث قال: «قال الذى عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربى» (النمل: 40). فإذا أجاز هذا لدى طائفة من الناس، ممن سبقه، صح وقوعه منه .

و ها نحن في كل يوم نشاهد من صنوف المخترعات في ميادين النقل و المواصلات ما يتمكن بواسطتها من قطع المسافات الشاسعة كالطائرات التي تجتاز المحيطات في ساعات قلائل و ينتقل من قارة إلى قارة و من قطر إلى قطر بيسر وسهولة، و هذا ليدفعنا إلى الإعتقاد الجازم بشهادة العيان بأن ما جاء في هذه الرحلة الخارقة لقوانين الطبيعة ليس أمرا عزيز الحصول أو مستحيلا، فإذا كان هذا بوسع الإنسان بحسب طاقاته المحدودة و هو الذي خلق ضعيفا، فالله سبحانه أقدر عليه وعلى غيره من كل أحد «و ما قدرو الله حق قدره».

5- «من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى» و هذه الجملة تعرب عن تحديد بدء السير و منتهاه، و أنه إبتدأ من المسجد الحرام و انتهى إلى المسجد الأقصى و هو بيت المقدس بقرينة قوله: «الذى باركنا حوله» و القصى البعد، و سمي المسجد الأقصى به لكونه أبعد مسجد بالنسبة إلى مكان النبي و من معه من المخاطبين و هو مكة التي فيها «المسجد الحرام».

و ذهب أكثر المفسرين إلى أنه أسري به من دار ام هاني اخت علي بن أبي طالب و زوجها هبيرة بن أبي لهب المخزومي، و كان صلى الله عليه و آله و سلم نائما تلك الليلة في بيتها، و أن المراد بالمسجد الحرام هنا مكة، و الحرم كلها مسجد.

و قال بعضهم: إنما اسري به من شعب أبي طالب.

و الوجه الأول هو الأوفق بظاهر الكتاب و مع ذلك يمكن تصحيح الوجهين الأخيرين بوجهين:

الأول: إنه لو كان في المكان الوسيع شي ء معروف و متبرك يطلق اسمه على جميع المكان نظير ذلك مسجد الشجرة حيث يطلق و يراد منه ذو الحليفة، و مشهد الإمام علي عليه السلام يطلق و يراد منه النجف برمتها، إلى غير ذلك، و من الممكن أن يكون المراد من المسجد الحرام، الحرم كله بالملاك المذكور فيشمل مكة و البيت الذي اسري منه النبي أو الشعب الذي كان النبي لاجئا إليه يومذاك.

الثاني: أن يكون الإسراء قد حدث مرتين أحدهما من المسجد الحرام و الآخر من بيت أم هاني أو من الشعب، و يؤيد ذلك ما رواه الكليني أنه سأل أبو بصير أباعبدالله عليه السلام فقال: جعلت فداك و كم عرج برسول الله؟ فقال: مرتين .

6- «ألذى باركنا حوله» أي جعلنا البركة فيما حوله من الأشجار و الثمار والنبات و الأمن و الخصب حتى لايحتاجون إلى أن يجلب إليهم من موضع آخر. أضف إلى ذلك إنه سبحانه جعله مقر الأنبياء و مهبط الملائكة، فقد إجتمعت فيه بركات و خيرات الدين و الدنيا.

7- «لنريه من آياتنا» و الجملة متكفلة ببيان الهدف من الإسراء و هو إراءة عجائب الآيات و غرائب الصنع، و منها إسراءه في ليلة واحدة من مكة إلى المسجد الأقصى، و هي فترة قياسية خارقة للعادة. فلو كان المسجد الأقصى منتهى سيره في ذلك الإسراء، فيكون المراد من الآيات التي أراه الله سبحانه إياها مجرد ما رأته عيناه في طريقة إلى المسجد الأقصى وما فيه من مقامات الأنبياء و قبورهم و آثارهم.

و أما إذا كان العروج إلى السماء متصلا بذلك الإسراء فتتسع نطاق الآيات، وفي السياق دلالة على عظمة هذه الآيات التي كشف له عنها الله سبحانه، و حيث أراه بعضها لاكلها، و فيه تصريح بأن الهدف هو إراءة الآيات الكونية الباهرة ليرجع النبي من إسرائه بصدر منشرح و قلب متفتح قد إنعكست فيه آيات العظمة و سبحات الجلال و الجمال، و أما ما يتخيل من أن الهدف رؤية الله سبحانه فهو مما حاكته يد الدس و نسجته أغراض التزوير.

و في الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت تنديد بهذا الفكر النابي. روى الصدوق في علل الشرائع: عن ثابت بن دينار، قال سألت زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام عن الله جل جلاله هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى عن ذلك، قلنا: فلم أسرى نبيه إلى السماء؟ قال: ليريه ملكوت السماوات و ما فيها من عجائب صنعه و بدائع خلقه.

و في حديث آخر عن يونس بن عبد الرحمان، قال: قلت لأبي الحسن موسى ابن جعفر عليهما السلام: لأي علة عرج الله عزّ و جلّ نبيه إلى السماء و منها إلى سدرة المنتهى؟ و منها إلى حجب النور؟ و خاطبه و ناجاه هناك؟ و الله لايوصف بمكان؟ فقال عليه السلام: إن الله تبارك و تعالى لايوصف بمكان و لايجري عليه زمان، و لكنه عز و جل أراد أن يشرف ملائكته و سكان سماواته و يكرمهم بمشاهدته و يريه من عجائب عظمته و يخبر به بعد هبوطه، و ليس ذلك على ما يقوله المشبهون. سبحان الله و تعالى عما يشركون.

8- «إنه هو السميع العليم» و هذا تعليل لإراءة آياته، و معناه أنه سميع لأقوال عباده، بصير بأفعالهم، يسمع أقوال من صدقه أو كذبه و يبصر أفعالهم.

(عروجه إلى السماء):

هذا كله حول إسرائه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، و قد جاء في القرآن في سورة واحدة و هي سورة الإسراء، و أما عروجه إلى السماء فقد تكفلت ببيانه سورة النجم، و إليك نص ما ورد بشأن ذلك فيها:

قال سبحانه: «و النجم إذا هوى* ما ضل صاحبكم و ما غوى* و ما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحى يوحى* علمه شديد القوى* ذو مرة فاستوى* و هو بالافق الأعلى* ثم دنا فتدلى* فكان قاب قوسين أو أدنى* فأوحى إلى عبده ما أوحى* ما كذب الفؤاد ما رأى* أفتمارونه على ما يرى» «و لقد رآه نزلة أخرى* عند سدرة المنتهى* عندها جنة المأوى* إذ يغشى السدرة ما يغشى* ما زاغ البصر وماطغى* لقد رأى من آيات ربه الكبرى» (النجم:1 - 18)

و الطائفة الاولى من الآيات راجعة إلى بدء الدعوة و لاتمت إلى حديث المعراج بصلة، و أما الطائفة الثانية فهي مصرحة بمعراجه صلى الله عليه و آله و سلم. و لأجل الوقوف على ما تهدف إليه الآيات يحتم علينا أن نفسرها واحدة بعد الاخرى، فنقول:

1- «و النجم إذا هوى». و هو حلف من الله بمخلوقه، و المراد من الهوى سقوطه للغروب.

2- «ما ضل صاحبكم و ما غوى» أي لم يخرج عن الصراط المستقيم، والمراد من الصاحب هو النبي، كما أن المراد من الغي هو الإعتقاد الفاسد، أي ماخرج النبي عن الطريق الموصل إلى الغاية المطلوبة ولم يخطئ في إعتقاده ورأيه.

3- «و ما ينطق عن الهوى» المراد بالهوى هوى النفس و رأيها، و مقتضى ورود النفي على النطق هو نفي الهوى في مطلق نطقه، إلا أن ذيله قرينة على أن المراد نفي سلطة الهوى في ما يدعوهم إلى الله.

4- «إن هو إلا وحى يوحى» أي لاينطق فيما يدعوكم إلى الله عن هوى نفسه ورأيه و ليس ذلك إلا وحيا يوحى إليه من الله تعالى.

5- «علمه شديد القوى» المراد من شديد القوى هو جبرئيل بقرينة قوله سبحانه: «ذى قوة عند ذى العرش مكين» (التكوير: 20) و بذلك يضعف إحتمال كون المراد هو الله سبحانه، و الضمير في «علمه» يرجع إلى الصاحب، المراد منه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و إحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا: «علمه إياه» و هو خلاف الظاهر.

6- «ذو مرة فاستوى» المرة- بكسر الميم- الشدة و حصافة العقل و الرأي، أي ذو حصافة في عقله و رأيه أو ذو شدة في جنب الله، و إحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة لـ «صاحبكم» و هو بعيد، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده، و هو أيضا دليل على أن المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أن المراد من قوله «فاستوى» إستقام على صورته الأصلية التي خلق عليها، لأن جبرئيل كان ينزل على النبي صلى الله عليه و آله و سلم في صور مختلفة، و لكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصلية.

7- «و هو بالافق الأعلى» و الضمير يرجع إلى شديد القوى، و المراد منه جبرئيل، كما أن المراد بالافق الأعلى ناحية المشرق من السماء، لأن المشرق مطل على المغرب و يحتمل أن يكون المراد افق أعلى من السماء من غير إعتبار كونه شرقيا، و الجملة، هي جملة حالية من ضمير فاستوى.

8- «ثم دنا فتدلى» و الضميران راجعان إلى جبرئيل، و المراد من «الدنو» القرب كما أن المراد من التدلي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو، والمراد قرب جبرئيل متدليا من الافق الأعلى.

9- «فكان قاب قوسين أو أدنى» ألقاب مقدار الشي ء، و القوس معروف وهي آلة الرمي، و المعنى قرب جبرئيل على حد لم يبق بينه و بين النبي إلا قدر قوسين أو أقل.

10- «فأوحى إلى عبده ما أوحى» و الضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في «عبده» يرجع إلى الله سبحانه، و المعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد الله ما أوحى. و ربما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى الله سبحانه، و المراد فأوحى الله بتوسط جبرئيل إلى عبده، و هو و إن كان صحيحا و لكنه على خلاف السياق.

11- «ما كذب الفؤاد ما رأى» و الكذب كما يتصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوة المدركة، يقال: كذبته عينه أي أخطأت في رؤيتها، و نفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ، و المراد من الفؤاد فؤاد النبي، و ضمير الفاعل في «ما رأى» راجع إلى الفؤاد، و الرؤية رؤيته، و لا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنه يطلق على شهود النفس رؤيتها.

12- «أفتمارونه على ما يرى» و هو توبيخ لهم على مماراتهم إياه، حيث إنه صلى الله عليه و آله و سلم كان يدعي رؤية جبرئيل و هم يجادلونه في ما رآه وشاهده، و لامجال للمجادلة فيما شوهد بالحس و العيان.

إلى هنا تمت الطائفة الاولى من الآيات و الكل يهدف إلى إستعراض قصة بدء الدعوة أن جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علمه القرآن و رآه النبي و هو بالافق الأعلى، و قد قرب من النبي متدليا إليه فلم يبق بينه و بين النبي إلا مسافة قوسين أو أدنى، و ليس هناك بحث عن رؤية النبي لله سبحانه كما لاصلة لهذه الآيات بحديث المعراج و عروجه إلى السماء.

و بالإمعان فيما ذكرنا تظهر امور:

أ- إن الضمائر من قوله علمه إلى قوله: «إلى عبده ما أوحى» كلها يرجع إلى شديد القوى و المراد منه جبرائيل إلا الضمير في «إلى عبده» فإنه يرجع إلى الله.

و على إحتمال، يرجع الضميران في الفعلين «فأوحى ... ما أوحى» إلى الله سبحانه، و بعد ذلك لامعنى للإستدلال بهذه الآيات على أن النبي رأى ربه، والإشتباه إنما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله: «ثم دنا فتدلى» إلى النبي الأكرم و أن المرادنا منه سبحانه و هو مما لايساعد عليه سياق الآيات.

ب- إن الكاتب الإنکليزي «جان. ديون. بورت» فسر قوله دنا فتدلى بأن النبي استجاز ربه للحضور عنده، فقرب منه إلى حد لم يبق بينه و بين ربه إلا قاب قوسين، و هو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك: إن هذا القسم من الآيات لايمت إلى حديث المعراج بصلة، و إنما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة و لم يكن هناك يومئذ معراج من النبي حتى يستأذن للحضور عند ربه، و منشأ الإشتباه مضافا إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلى إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم.

ج- إن بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات: إن النبي قرب من الله سبحانه حتى سمع صرير قلمه و وقف على أنه سبحانه مهتم بصيانة حساب عباده، سمع صرير قلمه و لم ير شخصه، كل ذلك خلط و خبط، يفعلون ذلك على الرغم من أنهم غير متضلعين في اللغة العربية و أساليبها و قواعدها و أسرارهاو في القرآن الكريم و إشاراته و نكاته، ثم يكتبون عن النبي و الإسلام و القرآن كل شي ء دعتهم إليه أغراضهم و لاعلم لهم بشي ء منها إلا ما لايلتفت إليه.

إذا وقفت على مفاد الطائفة الاولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبي صلى الله عليه و آله و سلم و إنما جاءت بعد الطائفة الاولى لصلة تامة بينهما و هو التركيز على أن النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعية في كلتا المرحلتين، اولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالافق الأعلى، و ثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى، و يؤكد على أن الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة، فيركز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاولى بقوله: «ما كذب الفؤاد ما رآى» و في ضمن الطائفة الثانية بقوله: «ما زاغ البصر وما طغى» و أن الرؤية رؤية واقعية غير مشوبة بالزيغ و الخطأ، ثم قال سبحانه:

13- «و لقد رآه نزلة اخرى» النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد، فتدل الآية على أن هذه قصة رؤية في نزول آخر، و الآيات السابقة تحكي نزولا آخر، و لأجل ذلك قلنا إن الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصة خاصة، و ضمير الفاعل يرجع إلى النبي، و ضمير المفعول لجبرئيل و النزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.

14- «عند سدرة المنتهى» و هو ظرف للرؤية، لا للنزلة و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصلية، و المعنى أنه نزل عليه نزلة اخرى، و عرج به إلى السماوات، و رآه النبي عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصلية، و السدر شجر معروف و التاء للوحدة، و المتنهى كأنه إسم مكان، و لعل المراد به منتهى السماوات بدليل أن جنة المأوى عنده و الجنة في السماء، فينتج إن سدرة المنتهى في السماء، و أما كون الجنة في السماء فبدليل قوله: «و فى السماء رزقكم و ما توعدون» (الذاريات: 22) و أما ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسره، و يؤيده قوله: «إذ يغشى السدرة ما يغشى» و سيوافيك تفسيره.

15- «عندها جنة المأوى» و المراد هي جنة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى: «فلهم جنات المأوى نزولا بما كانوا يعملون» (السجدة: 19). و هي أيضا في السماء على ما دل عليه قوله: «و في السماء رزقكم و ما توعدون».

16- «إذ يغشى السدرة ما يغشى» غشيان الشي ء الإحاطة به، و ما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها، و قدأبهم الله تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها.

17- «ما زاغ البصر و ما طغى» زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه، و طغيانه إدراكه مالاحقيقة له، و المراد بالبصر بصر النبي، والمعنى أنه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة، و لاأبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصارا لايشوبه الخطأ.

و قال العلامة الطباطبائي: إن المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لابجارحة العين، فإن المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله: «و لقد رآه نزلة اخرى» المشير إلى مماثلة هذه الرؤية لرؤية النزلة الاولى التي يقول فيها: «ما كذب الفؤاد ما رآى أفتمارونه على مايرى» غير أنه لامنافاة بين أن يراه بعينه و يراه بقلبه، فإن الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.

18- «لقد رأى من آيات ربه الكبرى» فهو رأى بعض آيات ربه الكبرى، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها و لايمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلاتوسيط آية. قال سبحانه: «و لايحيطون به علما» إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عز و جل، و الإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدة امور:

1- إنه قد اسري بالنبي ليلا على جهة القطع، و لكن هل كان عروجه في الليل أيضا؟ ليس في الآيات شي ء يدل على ذلك، فلو كان عروجه إلى السماوات متصلا بإسرائه فيتحد معه زمانا.

2- إن النبي اسري و عرج بروحه و جسده و لم يكن ذلك رؤيا.

3- بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكة المكرمة على ما مر ذكره، و أما مبدأ المعراج فلو كان متصلا بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى.

4- منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى، و أما منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله: «عند سدرة المنتهى» أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات.

5- كان الغرض من الإسراء و المعراج إراءة الآيات كما يتضمنه قوله: «لنريهمن آياتنا» و قوله: «و لقد رأى من آيات ربه الكبرى».

6- إن النبي رآى جبرئيل بصورته الأصلية مرتين، مرة في بدء الدعوة و مرة في المعراج.

7- قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلا مقدار قاب قوسين أو أدنى.

8- لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وماطغى.

كل ذلك مما تفيده الآيات و بقيت هنا عدة امور لم يرد في كلامه سبحانه ما يوضحه:

الف- ما هو حقيقة شجرة السدرة؟

ب- بما ذا غشى السدرة؟

ج- ما ذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة؟

فلابد في الوقوف على هذه الامور من الرجوع إلى الروايات.

ثم إن الروايات الواردة في الإسراء و معراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه:

أولا: ما يقطع بصحتها لتواتر الأخبار به و لإحاطة العلم بصحته.

ثانيا: ما ورد في ذلك مما تجوزه العقول و لاتأباه الاصول، و نحن نجوزه ثم نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه.

ثالثا: ما يكون ظاهره مخالفا لبعض الاصول إلا أنه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول، فالأولى أن نؤوله إلى ما يطابق الحق و الدليل.

رابعا: ما لايصح ظاهره و لايمكن تأويله إلا بالتعسف البعيد، فالأولى أن لانقبله.

أما الأول المقطوع به، فهو أنه أسرى به.

و أما الثاني فمنه ما روي أنه طاف في السماوات و رأى الأنبياء و العرش وسدرة المنتهى و الجنة و النار و نحو ذلك.

و أما الثالث فنحو ما روي أنه رأى قوما في الجنة يتنعمون فيها و قوما في النار يعذبون فيها، فيحمل على أنه رأى صفتهم أو أسماءهم.

و أما الرابع فنحو ما روي أنه صلى الله عليه و آله و سلم كلم الله سبحانه جهرة و رآه و قعد معه على سريره و نحو ذلك مما يوجب ظاهره التشبيه، و الله سبحانه يتقدس عن ذلك. و كذلك ما روي أنه شق بطنه و غسله، لأنه صلى الله عليه و آله و سلم كان طاهرا مطهرا من كل سوء و عيب، و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء؟[1]

المنبع:

مفاهيم القرآن، ج 7، ص 204

 

[1]مفاهيم القرآن، ج 7، ص 204